احذروا لغة قلب الحقائق؛ شعار المسيح الدجال
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
إن احترام العقول وعدم الاستهانة بِها؛ هو الطريق الأمثل و الأسلوب الرفيع، ولذا نجد الذي يَملك الحقيقة ليس في حاجة تلجئه إلى النزول في مستوى خطابه، وما نسمع ونشاهد من استخفاف بعض الناس بالعقول، دليل على ضعف دعواه، وهذه حُجَّةُ الضعفاء، وفاقدي الحجج والبراهين دائماً وأبداً، ولذا كان ذلك الإكرام من الله تعالى للعقل بالخطاب الواضح المبين، والأدلة والبراهين، وبالكلمة الطيبة، والمفردة والعبارة التي لا تقبل تأويلا ولا تحمل زخرفا وتَمويهاً، قال الله تعالى:﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾[إبراهيم: 52]، و﴿أُولُو الأَلْبَابِ﴾؛أي: أولو العقول، والألباب: جمع اللب، و اللب العقل، وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول لأنهم أهل الأفهام والإدراك؛ فهم الذين يعقلون عن الله مراده من الأمر والنهي، ويحسنون تدبر الآيات والحجج دون غيرهم .
شقاء التصورات، والأحلام، والنظريات
فحصل هذا التخصيص من الله، وأكرم بخطابه من كان له عقل يهديه إلى الصواب، أما من لا عقل له يهديه إلى الحق والصواب، فلن يحصل له التوفيق والسداد، وسيبقى يعيش في شقاء تصوراته، وأحلامه، وتنظيراته؛ من حيث لا يدري، كما هو حال بعض الْمُتَعَصّبة من الأفراد والأحزاب، والذين بلغ بِهم عدم الفهم، والغلو في قلب الحقائق؛ فذهبوا وتجاوزا كل الحدود في المغالطات، إلى المطالبة بالقوة، واستباحة الإرهاب الفكري، يريدون من الخلائق أن توافق جبراً على الفكر والفهم المنحرف الذي اعتنقوه وحملوه.
مهاجمة المجتمع بتغيير المفاهيم وقلب الحقائق
لقد بلغ الأمر من تصرفات تصدر من بعض الجماعات والأحزاب؛ إلى حد الخروج عن سلوك الجنس البشري المعهود، على اختلاف الأماكن والحضارات والملل والديانات.
مصادرة كل شئ قبل أن يصادر الحزب
إن بعض الأحزاب والجماعات تضحي بمفاهيم اللغة العربية، والمصطلحات الشرعية، وتلغي أسْماء الحقائق وما تعارف الناس عليه؛ من أجل المصالح الحزبية، و جعلوا الثوابت والمسلَّمات، وما رسخ من المعلومات الصحيحة، والثقافات، والمبادئ السليمة؛ قابلا للانْهيار أمام النظريات والمكاسب الحزبية، بل كل شيء – عند من باع عقله – قابل للهدم في سبيل عدم اهتزاز صورة هشة، وأفكار بشرية، ومبادئ ملوثة، ليس عليها أثارة من علم الكتاب والسنة، أو ما علمه العقل ضرورة كالشمس مشرقة، فأَصْبَحْتَ يا عبد الله! ترى مصادرة المفردة ومعناها وهي موضع التخاطب بينك وبين البشر، و وأد الحقيقة ولغة التفاهم بأكملها، وطمس الألفاظ التي تفسر المعاني وتُعَبِّرُ عن الأحداث، واستبدلت بقاموس المفردات الحزبية – القاموس السحري -،
1- فأصبح الحق باطلا، والباطل حقاً،
2- والإيمان كفرا والكفر إيمانا،
3- والنصر هزيمة والهزيمة نصراً،
4- والضرب إكراماً والإكرام ضرباً،
5- وحتى الصياح والضجيج، يراه أولئك القوم لغة لين القول واللطف في التفاهم،
6- وجعلوا عالَم الفوضى الذي يعيشونه ويعشقونه هو القمة والمنتهى في الحكمة، وكل من حولهم يمارس حياة الفوضى ولا يعرف للحكمة معنى فيما يرى ويكتب ويقول؛ فرأيه الفوضى، وقوله: التخاذل، وما تلك الكتابات المدعومة بالأدلة والحجج والبراهين إلا مزاولة للطعن؛ في قاموس الأحزاب وجرائم لن تغتفر .
فرعون لم يحترم العقول
ومن المعلوم أن الاستخفاف بعقول الناس من الأساليب الرديئة، وطريقة أصحاب الباطل ودعاة الضلال، وهذا ما فعله فرعون مع قومه لصدهم عن الحق، فكان نبي الله موسى يدعو إلى الحق والتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له، وفرعون مصر استخف بعقول المجتمع والعوام من الناس، وذهب يقلب الحقائق والمعاني الصحيحة؛ التي جاء بها موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾[الزخرف: 54]، قال البغوي في تفسيره: قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾؛ أي: استخف فرعون قومه القبط، أي وجدهم جهالا، وقيل: حملهم على الخفة والجهل، يُقال: استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب.اهـ وقال ابن كثير: أي: استخف عقولَهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له.اهـ
إبليس لم يحترم العقول
وكذلك مارس إبليس قلب الحقائق والتزيين والتلاعب بالألفاظ، من أجل نصرة طريقته، وتكثير أنصاره وأتباعه، قال تعال:﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[الحجر:39-40]، وقالتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا﴾[الإسراء :61- 65 ]، وفي قوله تعالى:﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾؛ أي: من استطعت أن تتلاعب بعقله، ويقبل سحرك ويصدق بقاموس ألفاظك؛ المجانب للحقيقة والبعيد عن الصواب، فمآله الضلال والهلاك، ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ﴾، وانظر كيف سلكت بعض الأحزاب الطريق نفسه؟! فما تعدهم الأحزاب إلا غروراً، وكلاما مزيفاً، ولكن العقلاء ومن تمسك بالكتاب والسنة، وأخذ بالألفاظ الشرعية، ولم يهمل المعاني العربية؛ فلهم النجاة من ذلك كله، لقوله:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾، وهذه رسالة إلى كل فرد أو حزب أو جماعة ممن مذهبه فتنة الناس وقلب الحقائق، والصد عن الصراط المستقيم ومعرفة الحقيقة .
المسيح الدجال حجته التمويه وقلب الحقائق
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسيح الدجال وحذر أمته من باطله، فكثير من أهل الأرض اعتنق مذاهب وطرائق مصدقاً لَها وهي في الحقيقة باطل، وذلك بسبب التزيين والتمويه الذي يحمله الدعاة إلى هذه الملل الباطلة، وقلب الحق باطلا، وجعل الباطل حقاً، ولذا حذر أمته من المسيح الدجال وأشباهه من دعاة الضلال، وعلمهم الدعاء؛ كما روى البخاري (833)، ومسلم (589) في صحيحيهما من طريق عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: «اللهم! إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا، وفتنة الممات، وأعوذ بك من المأثم والمغرم»، قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟! فقال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف» .
الدجال وكل إمام ضلالة
اعلموا أن الحق في خلاف دعواه
المسيح الدجال يكذب، ويقلب الحق باطلا، فإذا قال: هذه جنة فاجعلوها ناراً، وإذا قال: هذه نار فاجعلوها جنةً، ولا تغتروا بشعاراته، فخالفوا طريقه، وارفضوا كل شعار يرفعه، واعلموا أن الحق في خلافه، فالمسيح يَدّعي أنه يحيي ويميت، وأن معه جنة ونار، ومعه خيرات وهي شر في الحقيقة .
روى البخاري (7130)، ومسلم (2935) في صحيحيهما من طريق ربعي بن حراش، عن عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري قال: انطلقت معه إلى حذيفة بن اليمان فقال له عقبة: حدثني ما سَمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال، قال: «إن الدجال يخرج، وإن معه ماء وناراً، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب»، فقال عقبة: وأنا قد سَمعته تصديقاً لحذيفة .
وروى البخاري في صحيحه (3338) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه، إنه أعور، وإنه يجيء معه بِمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إِنَّها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه» .
خير الناس الذي لا يصدق أئمة الضلالة
روى البخاري (1882)، ومسلم (2938) في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، حديثا طويلاً عن الدجال، فكان فيما حدثنا قال: «يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس، فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقتله، ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله، ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه» . فاللهم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين .
الدكتـور/عبد العزيز بن ندَى العتيبي