الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المنفردِ بكمالِ الجمالِ، المتفرِّدِ بتصريفِ الأحوالِ، المتعالي عن الأشباهِ والأمثالِ، الموصوف بصفاتِ العظمةِ والجلالِ، الأحدِ الصمدِ الكبيرِ المتعالِ، لهُ الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ العُلَا، والمجدُ والكمالُ.
والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ، وصفوتِهِ من خلقِهِ، وأمينِهِ على وحيهِ، وأنصَحُهُمْ لأمَّتِهِ، بعَثَهُ اللهُ ومَن دونَهُ مِن الأنبياءِ والمرسلينَ بقولِهِم: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، فصدَعَ بأمرِهِ، وتحمَّلَ في مرضاتِهِ ما لم يتحمَّلْهُ بشرٌ سِواهُ، اللهمُّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وأتباعِهِ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ اللهَ خلقَنَا لغايةٍ جسيمةٍ وحكمةٍ بليغةٍ، وهي إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، قالَ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] أي: يُوحِّدونِ، والتوحيدُ أحبُّ العباداتِ إلى اللهِ على الإطلاقِ، لذا كانَ أوَّلَ أمرٍ في القرآنِ أمرٌ بالتوحيدِ، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ [البقرة: 21] وأوَّلُ نهيٍ في القرآنِ نهيٌ عن ضدِّ التوحيدِ وهو الشركُ، قالَ تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].
لذا استُحِبَّ الجمعُ بينَ سورتي التوحيدِ: سورةِ الكافرونَ -التوحيدُ العمليُّ- وسورةِ الإخلاصِ -التوحيدُ العلميُّ- في راتبةِ الفجرِ والمغربِ والركعتينِ خلفَ المقامِ، بل إنَّ نبينا محمدًا ﷺ جلَسَ في مكةَ عشرَ سنواتٍ لم يُفرَضَ عليهِ إلا التوحيدُ، ثم تعاقبَتْ الفرائِضُ معَ الاستمرارِ في التذكيرِ بالتوحيدِ.
وإنَّ العبدَ لو ترَكَ الواجباتِ كالصيامِ أو الزكاةِ أو فعلِ المحرماتِ كالرِّبا والزنا، فهُوَ على خطرٍ عظيمٍ، إلا أنَّ اللهَ قَدْ يغفِرُهُ، إلا تركُ التوحيدِ والوقوعُ في ضِدِّهِ وهو الشركُ، كالدعاءِ والذبحِ لغيرِ اللهِ قالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
وهذا كلُّهُ دالٌّ على أهميةِ التوحيدِ وخطورةِ الشركِ الأكبرِ والأصغرِ، فاجتهِدُوا في تعلُّمِ التوحيدِ والحذرِ من الشركِ، واحذروا خديعةَ الشيطانِ بأنْ يُؤمِّنكُمْ مِن الشركِ بحُجَّةِ أنكم مُوحِّدونَ أبناءُ مُوحدينَ، فإنَّ خليلَ اللهِ إبراهيمَ -عليهِ السلامُ- لَمْ يأمَنْ على نفسِهِ مِن الشركِ، قالَ تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] روى ابنُ جريرٍ عن إبراهيمَ التيميِّ أنهُ قالَ: ومَنْ يأمَنُ البلاءَ -أي الشركَ- بَعدَ إبراهيمَ -عليهِ السلامُ-؟
وقالَ اللهُ لنبيهِ محمدٍ ﷺ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19].
فمَنْ وَمَا نحنُ عِندَ خليلَيْ اللهِ سبحانهُ وتعالى؟ فلنتَّقِ اللهَ ولنتعاهَدْ أنفُسَنَا وأولادَنَا وأزواجَنَا وأحبابَنا في تعلُّم التوحيدِ ونشرهِ والاجتهادِ على قراءةِ كتابِ (القواعدِ الأربعِ) و(ثلاثةِ الأصولِ) لشيخِ الإسلامِ محمدٍ بنِ عبدِ الوهابِ -رحمهُ اللهُ تعالى-، فإنهما مفيدانِ للغايةِ مَعَ اختصارِهِمَا وسهولَتِهِما ووُضُوحِهِما.
اللهُمَّ أحينا على التوحيدِ والسنةِ وأمِتْنَا على ذلكَ حتَّى نلقاكَ وأنتَ راضٍ عَنَّا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فإنهُ قَدْ شاعَ في المجتمعاتِ المسلمةِ أمورٌ مخالفةٌ للتوحيدِ، فهيَ ما بينَ شركٍ أكبرَ أو أصغرَ، ومِنها ما يلي:
أولًا: صرفُ العبادةِ لغيرِ اللهِ كالذبحِ والنذرِ والدعاءِ وطلبِ المددِ مِن غيرِ اللهِ، كقولِهِم عندَ الشدائدِ: مَدَدٌ يا رسولَ اللهِ! مَدَدٌ يا حُسينُ! مَدَدٌ يا بدويُّ! … قالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].
ثانيًا: السحرُ والشعوذةُ، ومِنها سحرُ العطفِ، وهو أن يُحبَّبَ الزوجُ لزوجتهِ أو العكسُ، وسحرُ الصَّرفِ، وهو أن يُبغَّضَ الزوجُ من زوجتهِ أو العكسُ، وهذا كفرٌ، قال تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102].
ثالثًا: التعلُّقُ بالأبراجِ، كبرجِ الثورِ أو الأسدِ …، والاعتقادُ فيها، وهذا شركٌ؛ فإنَّ الأبراجَ لا تنفعُ ولا تضرُّ، وعِلمُ الغيبِ خاصٌّ باللهِ، قال تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّه﴾ [النمل: 65] حتى إنَّ أحدَهُم إذا تقدَّمَ زوجٌ لخِطبَةِ بنتٍ وزواجِهَا سُئلَ: أنتَ وُلدتَّ في أيِّ برجٍ؟ … إلى آخرِ ذلكَ، والعياذُ باللهِ.
رابعًا: تعليقُ التمائمِ، مِن عينٍ أو خيطٍ أو غيرها، لدفعِ العينِ أو الحسدِ أو المصائبِ، وهذا شركٌ، روَى الإمامُ أحمدُ عن عقبةَ بنِ عامرٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «من تعلَّق تميمةً فقَدْ أشركَ».
وقد شاعَ هذا في الناسِ، فمنهم من يُعلِّقُ في سيارتِهِ أو بيتِهِ أو على يدِهِ خيطًا أو غيرَ ذلكَ، فاتقوا الله وتعلَّقوا بهِ وحدَهُ دونَ أحدٍ سواهُ، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17].
خامسًا: الحلِفُ بغيرِ اللهِ، كالحلفِ بالنبيِّ ﷺ أو النعمةِ، أو صلاةِ الرجلِ أو قِيامِهِ، روى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عمَرَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ سَمِعَ رجلًا يحلفُ بأبيهِ فقالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
وروى الترمذيُّ عَن عُمَرَ -رضي الله عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ».
سادسًا: العلاجُ بالطاقةِ الكونيةِ والأحجارِ الكريمةِ، وهيَ مَبنيةٌ على ادِّعاءِ عِلمِ الغيبِ لغيرِ اللهِ، وهذا كفرٌ، أو جَعْلِهَا أسبابًا مؤثرةً نفعًا أو ضرًا بلا دليلٍ شرعيٍّ وَلَا عِلْمِيٍّ موثوقٍ، وهذا شركٌ، وإنما هيَ خُزُعبِلاتٌ وكذبٌ يُرادُ مِن ورائها أكلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ.
اللهُمَّ احفَظْ علينا توحِيدَنَا وثبِّتْنَا عليهِ حتَّى نلقاكَ راضيًا عَنَّا، اللهُمَّ إذا أرَدْتَ بعبادِكِ فِتنةً فاقبِضْنَا إليكَ غيرَ مفتونينَ.