الضلالة حق الضلالة
بسم الله الرحمن الرحيم
لما حضرت حذيفة بن اليمان الوفاة دخل عليه أبومسعود البدري رضي الله عنهم فأسنده إليه، فقال له أبومسعود: أوصنا؛ قال: اعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في دين الله تعالى فإن دين الله واحد. أخرجه الحارث ابن أبي أسامة وأبو الفضل المقريء في ذم الكلام وأهله وعبد الرزاق في المصنف واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة.
وهذه نصيحة عظيمة من هذا الحبر النحرير والصحابي الكبير اختصرها في جملتين، الأولى في ميزان الضلالة من الهدى، والثانية في التحذير من التلون في الدين والتشكك فيه، فمن كان على بينة من ربه ويقين من دينه فما الذي يجعله يتنكر لما كان موقناً به ويتنكب الصراط المستقيم مكباً على وجهه!؟ نعوذ بالله من الخذلان، وتالله ما هذا التلون إلا من زيغ بعد هدى أو ريب تكاثر وربى. وإنك لتعجب كل العجب من انقلاب الموازين وتغير الناس حتى إن العبد ليفزع فزعاً شديداً ويلجأ إلى الله بسؤاله الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد كما صح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم. ترى أناساً على علم ودراية بل على تشدد في يوم من الأيام في أمور ثم ينقلب على رأسه وينكر ما كان يعرف! ورأينا قوماً ألفوا في الرد على الضالين وتضليلهم ثم مالبثوا أن صافحوهم وانصرفوا إلى أمور أشد وأشنع، وقوماً آخرين كفروا بعض المبتدعة ثم ألحوا بضرورة توحيد كلمة المسلمين على اختلاف مشاربهم، ورأينا قوماً كانوا يدعون إلى التكفير والتفجير ويقومون به، ثم يدعون إلى الإلحاد والتنكب للدين رأساً! تناقض بين طرفي نقيض! اللهم الطف بنا وألهمنا رشدنا. وهذا في الغالب يكون فيمن في قلبه دغل وفساد قصد فيظهره الله منه ويطلع عباده عليه.
روى الحافظ أبو بكر الآجري في الشريعة عن معن بن عيسى قال : انصرف مالك بن أنس يوماً من المسجد، وهو متكئ على يدي فلحقه رجل يقال له : أبو الجويرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي قال مالك: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني قال مالك: فإن جاء رجل آخر، فكلمنا فغلبنا ؟ قال: نتبعه! قال مالك رحمه الله: يا عبد الله، بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين! قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وعن هشام بن حسان قال : جاء رجل إلى الحسن فقال : يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن : أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه.
وأخرج البخاري عن حذيفة أنه قال يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيداً. وفي رواية اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة قال: اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا وإن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيداً.
قال ابن حجر في الفتح: قوله يا معشر القراء بضم القاف وتشديد الراء مهموز جمع قارئ والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد. قوله استقيموا أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركا وقوله فيه سبقتم هو بفتح أوله زاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فان استقمتم فقد سبقتم أخرجه أبو نعيم في المستخرج وقوله سبقا بعيدا أي ظاهرا. . قوله فان أخذتم يمينا وشمالا أي خالفتم الأمر المذكور وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).اهـ.
وروى اللالكائي أيضاً عن أبي قلابة قال قال معاذ بن جبل: أيها الناس إنها ستكون فتنة يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن فيقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والرجل والصغير والكبير حتى يقول الرجل قد قرأت القرآن ولا أرى الناس يتبعوني أفلا أقرأه عليهم علانية قال فيقرأه علانية فلا يتبعه أحد فيقول قد قرأته علانية فلا أراهم يتبعوني فيتخذ مسجدا في داره أو قال في بيته فيبتدع فيه قولا أو قال حديثا ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة.
وروى أبو داود بسند صحيح عن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل أن معاذاً كان لا يجلس مجلسا للذكر حين يجلس إلا قال الله حكم قسط هلك المرتابون فقال معاذ بن جبل يوما إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق! قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات (وفي رواية: المشبهات) التي يقال لها ما هذه (وفي رواية: ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول ما أراد بهذه الكلمة؟) ولا يَثْنِيَنَّكَ ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.
وروى اللالكائي عن عبد الله بن مسعود قال ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كنتم لا بد مقتدين فبالميت فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.
وعن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربوا فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا تُرِكَ منها شيء قيل تركت السنة! قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم وكثرت جهالكم وكثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين. رواه الدرامي والحاكم بسند صحيح قال عنه الحاكم: على شرط البخاري ومسلم. ووافقه الذهبي والألباني.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمدوآله وسلم.
كتبه سعد بن شايم الحضيري