الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ شريعتَهُ شريعةَ يُسْرٍ وَسَماحةٍ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللِه الذي بُعِثَ بالحنيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22].
أمَّا بعدُ:
فَقَدْ أخرجَ الإمامُ أحمدُ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «بُعثْتُ بالحنيفيَّةِ السَّمْحَةِ»، قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ -رحمه الله تعالى-: الحنيفيَّةُ في التوحيدِ، والسَّمْحةُ في الأحكامِ.
وَمِن سماحَةِ شريعَةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ أنَّها أجازَتْ المسْحَ على الخفَّيْنِ والجَوْرَبَيْنِ، وتكاثَرَتِ الأحاديثُ في بيانِ جوازِ المسحِ على الجَوْرَبَيْنِ، قالَ الحسنُ البَصْرِيُّ: رَوَى المسْحَ على الخُفَّينِ سبعونَ نفسًا.
والخُفَّانِ مَا كانَ مِن الجِلْدِ، وأمَّا الجوربانِ ما كانَ مِن غيرِ الجِلْدِ، وَمَا يُسَمَّى شُرَّابًا فإنهُ مِن الجوارِبِ.
أخرجَ الشيخانِ عن المغيرةِ بنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قالَ: كُنْتُ مَعَ النبيِّ ﷺ في سَفَرٍ فَتَوضَّأَ فأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ»، ثُمَّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا ﷺ.
أمَّا المَسْحُ على الجَوَارِبِ فَقَدْ ثَبَتَ عن صحابَةِ رسولِ اللهِ ﷺ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الهُذَلِيِّ، وعن أبي مسعودٍ البَدْرِيِّ، وأنسِ بنِ مالكِ الأنصاريِّ -رضي الله عنهم- وقالَ ابنُ تيميةَ: ليسَ بينَ الصحابةِ خِلَافٌ في ذلكَ.
وإِنَّ للمسحِ عليهِمَا شُرُوطًا:
الشرطُ الأولُ: أنْ يكونَا مَلْبُوسَيْنِ على طهارةِ ماءٍ، فَلَيْسَ لأحَدٍ أنْ يمسَحَ على الخُفِّ أو الجَوْرَبِ إِلَّا وَأَنْ يكونَ قَدْ لَبِسَهُمَا بعدَ وُضُوءٍ أو غُسْلِ جَنَابَةٍ؛ لِقَولِهِ ﷺ في حديثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه-: «دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ».
الشرطُ الثاني: أنْ يكونَا غيرَ نَجِسَيْنِ، كأَنْ يكونَا مِن جِلْدِ غيرِ مأكولِ لَحْمٍ، فإِنَّهُمَا إذا كانَا نَجِسَيْنِ لَمْ يَصِحْ المَسْحُ عَلَيْهِمَا، وَعَلى هذا المَذَاهِبِ الأربعَةِ، وَتَوارَدَ كَلَامُ العلماءِ عَلَى ذلكَ.
الشرطُ الثالثُ: أَلَّا يكونَا مُتَنَجِّسَيْنِ، بألَّا تَتَعلَّقَ بِهِمَا نَجَاسَةٌ، فَإِذا تَعَلَّقَتْ بِهِ نَجَاسَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَو غَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ المَسْحُ عَلَيْهِمَا.
الشرطُ الرابِعُ: ألَّا يكونَا خَفيفَيْنِ يُرَى مَا وَرَاءَهُمَا مِن لَوْنِ الجِلْدِ لِرِقَّتِهِمَا، فَقَدْ حَكَى جَمْعٌ مِن أهلِ العلمِ الإجماعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ المَسْحِ عَلَى الخُفِّ إِذَا كانَ خَفِيفًا يُرَى مَا وَرَاءَهُ، كَالكاسَانِيِّ والمَنْصُورِيِّ.
واعْلَمُوا أنَّهُ إِذَا كانَ الخُفُّ أو الجَوْرَبُ مُخَرَّقًا فإِنَّهُ يَصِحُّ المَسْحُ عَلَيْهِ، قالَ الإمامُ سفيانُ الثورِيُّ -رحمه الله تعالى-: وَهَلْ كانَتْ خِفَافُ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ إِلَّا مُخَرَّقَةً؟
وَإن لِلمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ مُدَّةً، فَإِذَا كانَ الرَّجُلُ مُقيمًا فإنَّ لهُ أنْ يَمْسَحَ على خُفِّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، يَعْنِي أَرْبَعًا وعشرينَ ساعَةً، وَإِذَا كانَ مُسَافِرًا فَلَهُ أنْ يَمْسَحَ على الخُفِّ ثلاثَةَ أيَّامٍ وَلَيَالِيهُنَّ، يَعْنِي اثْنَتَيْنِ وسبعينَ ساعةً.
أخرَجَ مسلمٌ عن عليٍّ -رضي الله عنه- قالَ: جعَلَ النبيُّ ﷺ يومًا وليلةً للمُقِيمِ، وثلاثَةَ أيَّامٍ ولياليهِنَّ للمُسَافِرِ، يَعْنِي في المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ.
وَتَبْتَدِئُ مُدَّةُ المَسْحِ مِنْ أوَّلِ مَسْحَةٍ بَعْدَ حَدَثٍ، وذلكِ أنَّ الشَّريعَةَ عَلَّقَتْ الأمرَ عَلَى مَسْحِ الخُفَّيْنِ، فَلَوْ قُدِّرَ أنَّ رَجُلًا مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ تَوَضَّأَ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّهُ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، وَقُبَيْلَ العَصْرِ في السَّاعَةِ الثانِيَةِ والنِّصْفِ أَحْدَثَ ثُمَّ تَوَضَّأَ لِصَلاةِ العَصْرِ وَمَسَحَ عَلَى خُفِّهِ، فَإِنَّ لَهُ أنْ يَمْسَحَ إِلَى الغَدِ السَّاعَةَ الثانِيَةَ والنَّصْفَ، لِمُدَّةِ أَرْبَعٍ وعشرينَ ساعةً.
أمَّا مَا شَاعَ عِنْدَ بَعضِهِمْ أنهُ يَمْسَحُ لِخَمْسِ صَلَواتٍ، فَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
واعْلَمُوا -عَلَّمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ كُلَّ خَيْرٍ- أنهُ قَدْ يَلْبَسُ الرَّجُلُ جَوْرَبًا -أي شُرَّابًا- أَوْ خُفًّا، ثُمَّ يُريدُ أَنْ يَلْبَسَ خُفًّا فَوْقَهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الفَوْقَانِيِّ؟ أَوْ لَابُدَّ أَنْ يَخْلَعَ الفَوْقَانِيَّ وَيَرْجِعَ وَيَمْسَحَ عَلى التَّحْتَانِيِّ؟
إِنَّ مَنْ أرادَ أنْ يَمْسَحَ عَلَى الفَوْقَانِيِّ فَيُشتَرَطُ بِإِجماعِ أهلِ العلمِ كَمَا حَكَاهُ ابنُ قُدَامَةَ أَنْ يَلْبَسَ الفَوْقَانِيَّ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَوْ على طهارَةِ مَسْحٍ، فَإِذَا لَبِسَهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ.
فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَسَحَ عَلَى خُفِّهِ قُبَيْلَ العَصْرِ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ أرادَ أنْ يَلْبَسَ فَوْقَهُ خُفًّا آخَرَ أَوْ جَوْرَبًا آخَرَ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ ذلكَ وأَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يكونَ عِنْدَ لِبْسِهِ طَاهِرًا وَلَوْ عَلَى طهارَةِ مَسْحٍ.
ثُمَّ إِنَّ الفَوْقَانِيَّ تَبَعٌ لِلتَّحْتَانِيِّ فَي المُدَّةِ، فَيَسْتَمِرُّ يَمْسَحُ عَلَى الفَوْقَانِيِّ إلى أَنْ تَنْتَهِي مُدَّةُ المَسْحِ على التَّحْتَانِيِّ.
أَسْأَلُ اللهَ الذي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أَسْأَلُ اللهَ الرَّحمنَ الرَّحيمَ، أسألُ اللهَ ذَا المَنِّ والفَضْلِ، أنْ يُعَلِّمَنِي وَإِيَّاكُمْ مَا يَنْفَعُنَا، اللهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، اللهُمَّ فَقِّهْنَا في دِينِنَا، اللهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِعِلْمِنَا يا أرحمَ الرَّاحِمِيْنَ.
أقولُ مَا تَسْمَعونَ، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ فاستَغْفِرُوهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فَإِنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْنِ طَهَارَةٌ مُخَفَّفَةٌ، لِذَا كُلُّ مَا يُسَمَّى مَسْحًا عَلَى الخُفِّ فَيُعَدُّ مَسْحًا، كَمَا ذَهَبَ إلى ذلكَ الإمامُ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُعَمِّمَ عَلَى الخُفِّ، فَأَيُّ مَسْحٍ على أَعْلَى الخُفِّ يَصِحُّ، لِأَنَّ الشريعةَ جاءَتْ بالمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ ولم تَشْترطْ صفةً فَكُلُّ مَا يُسَمَّى مَسْحًا فَهُوَ مُجْزِئٌ.
واعْلَمُوا أَنَّ مَن أجنبَ فيَجِبُ عليهِ أَنْ يَخْلَعَ خُفَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْمَسْحِ على الخُفَّيْنِ بِدَلَالَةِ السُّنَّةِ والإجمَاعِ.
ثَبَتَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ عنْ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ -رضي الله عنه- قالَ: كانَ النبيُّ ﷺ يأمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرينَ أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ.
فالجَنَابَةُ مُبْطِلٌ لِلْمَسْحِ على الخُفَّيْنِ.
إِخْوَةَ الإيمانِ، هذا شَيْءٌ قليلٌ مِن أحكامِ المَسْحِ على الخُفَّيْنِ التي نَحْتَاجُ إلَيْهَا في السَّنَةِ كُلِّهَا، لاسِيَّمَا عِنْدَ اشْتِدَادِ البَرْدِ، فَبِهَذا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَلُّمَ العِلْمَ الشرعيِّ مُهِمٌّ لِلْغايَةِ، وهُوَ نُورٌ وَهِدَايَةٌ وسبيلٌ لِرِضَى الرحمنِ.
وَمِن الأخطاءِ الشَّائِعَةِ أنَّ أقْوَامًا قَدْ اشْتَغَلوا بِغَيْرِ مَا يَنفَعُهُمْ، مِن تَتَبُّعِ السِّياسَاتِ في القَنَواتِ والصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ، وأَعْرَضُوا عَن تَعَلُّمِ العِلْمِ الشرعِيِّ، فَمَا يَجْتَمِعونَ إِلَّا وَيَتَصَارَعُونَ سياسيًا وَيَتَنَاطَحُونَ فِكْرِيًّا، وإِذَا جاءَ العِلْمُ الشرعِيُّ رأيتَهُمْ أَجْهَلَ النَّاسِ في ذلكَ، وَبَعْضُهُمْ مَعَ جَهْلِهِ عِنْدَهُ رِقَّةُ دِينٍ لَا يُبالِي في أَنْ يَتَكَلَّمَ في دينِ اللهِ بِجَهْلٍ من غيرِ عِلْمٍ، -عافاني اللهُ وإيَّاكُمْ-.
اللهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، اللهُمَّ فَقِّهْنَا في الدِّينِ وَعَلِّمْنَا التَّنْزِيلَ.
اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَعُمَّ التَّوحيدَ والسُّنَّةَ في بِلَادِ المسلمينَ.