( تحذير المتشرعة من تبني بعض مقولات الفلسفة )
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأصول الفلسفيّة في انتقاص الشّريعة والحطّ من قدرها كثيرة، يتعذّر استقصاؤها، وتعقُّب أفرادها، إنّما قصدت الإشارة إلى التحذير منها، والتنبيه إلى خطر تغلغلها في خطاب بعض المتشرّعة والدعاة المعاصرين، الذين قد لا يدركون منابعها والمصادر التي استُقيت منها، ولا المعاني التي تستكنّ فيها، ولا يتنبّهون إلى الغايات والمآلات التي تنجُم عن التّهاون بشأن توظيف هذه المقولات في الخطاب الدعوي.
وقد زيّن الشيطان للفلاسفة علومهم، فغرّتهم عن اتّباع العلم المنزّل الذي جاءت به الرسل، فانشغلوا بمقولاتهم، وافتتنوا بعلومهم، التي فرحوا واستغنوا بها، ورضوا واطمأنّوا بما فيها، فلم يرفعوا بالوحي رأسا، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاءت به الرّسل.
قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} (83) سورة غافر
وقد ظنّ الفلاسفة أنّهم بهذه الأصول التي اخترعوها، والمناهج التي أحدثوها، قد حاجّوا أهل هذا الدين فأوهنوا قوّتهم، وأضعفوا عزيمتهم، فاطمأنّوا إلى هذه الأصول التي جعلوا منها حقائق قطعيّة، ويقينيّات جازمة، لا يُمكن لأحدٍ ردُّها أو إبطالها أو التعقّب والاستدراك عليها، ففرحوا بعلومهم، واحتقروا الوحي المنزّل واستهزأوا بمن اتّبعه وآمن به.
وقد صار الحال بكثير من الفلاسفة القائلين بهذه الأصول إلى الحيرة والاضطراب، فآل بهم الأمر إلى أنّ أحدهم لا يعرف حقّا ولا باطلا ولا يُقرّ معروفا ولا يُنكر مُنكرا، التبست عليهم المقولات، واختلطت في عقولهم المفاهيم والتّصوّرات.
وقد وكل الله تعالى هؤلاء الفلاسفة إلى عقولهم الفاسدة وقلوبهم الحائرة، فارتقت إلى منازل لا قُدرة لها عليها، ولا يُمكن للعقل وحده أن يستقلّ بفهمها وإدراكها دون أن يفيء إلى الله تعالى، ويستمدّ العون والتوفيق والهداية منه سبحانه.
فجازاهم الله بنقيض قصودهم، لأنّهم زعموا أنّ الإيمان بالدين والتّسليم للشريعة، سبب رئيس في الأمراض والعُقد الّنفسية، لأنّ الفلاسفة يزعمون أنّ الدين يقوم بتخدير المؤمنين به، فيجعلهم من صنّاع البؤس وبواعث الشقاء، في عالم يتطلّب العمل الجاد وصناعة الحياة والسّعي المثمر البنّاء، بعيدا عن ترحيل معاناة البشريّة وهمومها وعذابات أهلها إلى دارٍ آخرة لا يحيطون بكُنهها ولا يدركون حقيقتها.
فجازى الله تعالى هؤلاء الفلاسفة بنقيض قصودهم، وعكس مراداتهم، فصاروا ببعدهم عن الدين الحق، وكفرهم بالشّريعة، أهل حيرة واضطراب، وشكّ وارتياب، فلا تستقرُ نفوسهم على مذهب، ولا تطمئنّ عقولهم إلى دين، فهم يتقلّبون بين الأفكار والمناهج، ويتلوّنون بحسب الأهواء والمصالح، ويتردّون من منزلة إلى أحطّ منها.
فليتّق الله أولئك الدعاة العصريون الذين اغترّوا ببهرج بعض المقولات الفلسفية وغرّوا أتباعهم بها.
وليحذروا من الوقوع في شراك هذه المناهج الفكريّة والمفاهيم الوضعية فإنّ في تبنّيها وزخرفتها وتطويع النصوص الشرعيّة لكي تتواءم معها وتشهد لها، تحريف للدين وجناية على الشّريعة وتضييع لمعانيها وغشّ عظيم للمسلمين.
وليلزم هؤلاء المتشرعة طريقة السلف الصالح والرعيل الأول في فهم الدين وتلقّي خطاب الشريعة والعمل بمقتضاه، فبه تتحقّق النّجاة، وعنه يكون السؤال.
فإنّ هذه الأصول التي انتجتها عقول الفلاسفة الكاسدة وأفهامهم ورؤاهم الفاسدة، يورثُ القول بها والعمل على أسلمتها، والسّكوت عن منكرها، التخفّف من الشّريعة والتحيُّل عليها، والإيمان ببعض الدين والتولّي والإعراض عن بعض.
كتبه محمد بن علي الجوني الألمعي