“فضل مجالس الذكر”
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي رفع من أراد به خيرًا بالعلم والإيمان، وخذل المعرضين عن الهدى وعرّضهم لكل هلاك وهوان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريمُ المنان، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الذي كمّل الله له الفضائل والحسن والإحسان، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم على مرّ العصور والزمان.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنّ التقوى لا تتم لكم إلا بمعرفة ما يُتقى من الكفر والفسوق والعصيان، ولا تستقيم لكم إلا بقيامكم بأصول الإيمان وشرائع الإسلام وحقائق الإحسان.
فطلب العلم إذًا من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، فإنّ عليه المدار في قيام الطاعات وترك المخالفات. فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومن لم يرد به خيرًا أعرض عن طلب العلم وسماعه، فكان من الهالكين الجاهلين.
أما إن طلب العلم قربة وثواب عند رب العالمين، والإعراض عنه شرٌ وخسرانٌ مبين.
معاشر المؤمنين:
لقد تكاثرت النصوص في كتاب الله وصحيح سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – التي تحض وتحث على طلب العلم، وترغّب في حضور مجالس الذكر.
فعن الأغرّ أبي مسلم أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده” رواه مسلم.
كما روى أيضًا في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيّارة، فُضُلًا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”.
وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم– مرةً على حلقة من أصحابه، فقال:”ما أجلسكم؟” قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: “آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟” قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال:”أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني، أنّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة”رواه مسلم.
وروى أيضًا عن أبي واقدٍ الليثي – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذهب واحد، قال فوقفا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه”.
معاشر المؤمنين:
تدلّ هذه الأحاديث ونحوها على أمورٍ، منها:
استحباب الجلوس؛ لمدارسة العلم الشرعي الذي به تُعلم أصول الإيمان وشرائع الإسلام، وبه يُعرف الحلال من الحرام.
وفضل حلق الذكر في المساجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، واستحباب القرب من كبير الحلقة؛ ليُسمع كلامه سماعًا بينًا ويُتأدب بأدبه.
وفيها: أنّ من انضم إلى مجالس العلم؛ فإنما دخل مجلس ذكر الله تعالى أو دخل مجلسَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومجمعَ أوليائه وانضم إليه، ومعنى: آواه الله في قوله صلى الله عليه وسلم : ” أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله”، أي: قَبِله وقرّبه، وقيل: معناه رحمه أو آواه إلى جنته، أي: كتبها له.
وفيها من ثمرات وفضائل هذه المجالس: أنّ الملائكة تحفّ أهلها، وتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ويباهي الله تعالى بهم أهل السماء.
بل إنّ فضل مجالس الذكر لا يقتصر على الذاكرين فحسب، بل يشمل جليسَهم؛ فإنه يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم؛ إكرامًا لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
واليوم ومع تجدد وسائل العصر، وسهولة الاستماع والانضمام إلى مجالس الذكر عبر برامج التقنية الحديثة؛ فإنّه يرجى لمن فعل ذلك مع عدم تيسّر حضور تلك المجالس: الثواب والأجر من الله تعالى. بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واشتغلوا بما خلقتم له من معرفة الله وعبادته، وسلوا ربكم أن يمدكم بتوفيقه ولطفه وإعانته. قال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}.
فكونوا- رحمكم الله- متعلمين، فإن لم تفعلوا فاحضروا مجالس العلم مستمعين ومستفيدين، واسألوا أهل العلم مسترشدين متبصرين، وتحروا من تسألون؛ فإنّ هذا العلم دينٌ، فانظروا عن من تأخذون دينكم.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبينا محمد؛ فقد أمر الله – عز وجلّ – بذلك، فقال سبحانه: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا)، فاللهم صلّ وسلم عليه يا رب العالمين، وارض اللهم عن صحابة محمد أجمعين، وعن التابعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين.
اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحدود والثغور وفي الداخل يا قوي يا عزيز.
اللهم وفق ولاة أمورنا بتوفيقك، وأيدهم بتأييدك، واجعل عملهم صالحًا في رضاك، وهيّئ لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا تقبل منّا؛ إنك أنت السميع العليم، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.
والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة/ بدر بن خضير الشمري، للملاحظات يرجى التواصل عبر الرقم/ 00966533646769