الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بكرمه ورحمته يذكر من ذكره، القائل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير الذاكرين، وإمام الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله، واعلموا أن الله أمر بذكره بعد الفراغ من الصلاة المفروضة؛ فقال سبحانه {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، ولا يكون الذكر مشروعا إلا إذا كان على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا على الصفة المحدثة التي يفعلها أهل البدع وأمثالهم.
وفي هذه الخطبة تذكير بالأذكار التي ثبتت بعد الصلوات المفروضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبدايتها حديث ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-كما في صحيح مسلم، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ»، وفي الصحيحين عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»، وفي صحيح مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».
عباد الله: إن في الاستغفار بعد السَّلام جبرا للتقصير والخلل، ولكل ما يحصل من وسواس أو غفلة، وفي بقية الأذكار ثناء على الله عز وجل، وإقرار بالعبودية له سبحانه، وبراءة من الشرك وأهله، واعتراف بضعف العبد وأنه لا حول ولا قوة له إلا بالله.
وبعد هذا التذكير، إليكم بعض الأمور المهمة المستفادة من هذه الأذكار:
أولا: أن لفظ الحديث بعد الاستغفار في أول الأذكار هو «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ»، وليس فيه لفظ “تعاليت” وبهذا نعلم خطأ ما درج على ألسن بعض المسلمين “تباركت وتعاليت”، لأنها زيادة لا تصح، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن قوله: لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ، يعني لا ينفع الإنسان الغني عند الله غناه، ولا حظه، ولا مكانته، ولا ينفعه إلا عمله الصالح، وليس معناها الجد والد الأب كما ظن بعض العامة.
ثالثا: قال الشيخ ابن باز رحمه الله (والسنة للإمام والمنفرد والمأموم الجهر بهذه الأذكار بعد كل صلاة فريضة جهرا متوسطا ليس فيه تكلف لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز أن يجهروا بصوت جماعي بل كل واحد يذكر بنفسه من دون مراعاة لصوت غيره؛ لأن الذكر الجماعي بدعة لا أصل لها في الشرع المطهر).
رابعا: قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح هذه الأذكار: “إن الترتيب بين الأذكار ليس بواجب، يعني لو قدمت بعضها على بعض فلا بأس لكن الأفضل أن تبدأ بالاستغفار ثلاثا واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ثم تذكر الله تعالى بالأذكار الواردة” شرح رياض الصالحين.
خامسا: إذا انتهت الصلاة فالسنة بحق الإمام أن يلتفت للمصلين ويعطيهم وجهه، بعد أن يقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» لما ثبت في صحيح مسلم عن عَائِشَةَ قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ..” ثم ذكرت الحديث، ولقول سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: ” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ “ رواه البخاري.
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإن التسبيح بعد صلاة الفريضة من الأجور العظيمة التي فرط فيها بعض المسلمين، وقد ورد بعدة صيغ منها: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»، وغيرها من صيغ التسبيح الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، التي ينوع بينها المسلم مرة يذكر هذا ومرة يذكر هذا، وبهذا يحقق المسلم: اتِّباع السُّنَّة، وإحياءها، وحضور القلب فلا يعتاد لسانه تكرار الذكر وقلبه غافل.
وإن من المسائل التي يجدر التنبيه عليها ما لوحظ في الأزمنة المتأخرة من تعليق لوحات الأذكار في المساجد بحجة التعليم والتذكير ومثلها الشاشات الإلكترونية، وهذا عمل مخالف للسنة فالمسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد قريب لم يفعلوها مع قدرتهم على ذلك ووجود من يحتاج للتعليم والتذكير من عوام المسلمين، ولو كان فيها خير لما تركوها، كما أن تعليقها يشغل المصلين ويشوش عليهم، لذا وجه سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بإزالتها من مقدمة المساجد كما في خطابه الموجه لوزير الشؤون الإسلامية (رقم 889/4 المؤرخ في 14-7-1427)-، وعليه عممت الوزارة بهذا الخصوص بإزالتها، وقد ذكر العلامة ابن باز في الفتاوى أن من فوائد رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة: “تعليم للجاهل وتذكير للناسي ولولا ذلك لخفيت السنة على كثير من الناس”.
اللّهمّ أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم عليك بأعداء الدين ياقوي ياعزيز، اللهم وفق ولي أمرنا سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثبت قلوبنا عَلَى دِينِكَ، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.