الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طهُورًا، وَسَقَى بهِ مِنْ خَلْقِهِ أَنْعَامًا وأنَاسِيَّ كثيرًا، وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وجعَلَ بينهما برزخًا وحِجْرًا محجورًا، سبحانهُ وتعالى عمَّا يُشرِكونَ عُلوًّا كبيرًا.
وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، شهادةُ مُقِرٍّ برُبُوبِيَّتِهِ، شاهِدٌ بِوَحدَانيَّتهِ، مُنقادٌ إليهِ لمِحَبَّتِهِ، مُذْعِنٌ لهُ بطاعتِهِ، مُعْتَرِفٌ بنعمتهِ، فارٌّ إليهِ مِنْ ذنبهِ وخطيئتهِ، مُؤمِّلٌ لِعَفْوِهِ وَرَحمتهِ، طامعٌ في مغفرتهِ، بريءٌ إليهِ مِنْ حولهِ وقوتهِ، لا يبتغي سواهُ ربًّا وَلَا يتَّخذُ مِنْ دُونِهِ وليًّا وَلَا وَكِيلًا.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ ﷺ، أنعمَ بهِ علينا ليُعلِّمَنَا الكتابَ والحكمةَ ويُزكِّنا، نشهدُ أنَّهُ أدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وبلَّغَ الرِّسالةَ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]
أمَّا بعدُ:
فَإِنَّ منْ أهمِّ العباداتِ الوضوءَ فإنهُ لَا صلاةَ إلَّا بهِ، أخرجَ مسلمٌ عنِ ابنِ عمرَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَا تُقبلُ صلاةٌ بغيرِ طُهور».
وإنَّ للوضوءِ فضائلَ منهَا مَا أخرجَ مسلمٌ عنْ أبِي مالكٍ الأشعريِّ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «الطُّهورُ شطرُ الإيمان».
وأخرجَ مسلمٌ عنْ عثمانَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «منْ توضأَ فأحسنَ الوضوءَ خرجتْ خطاياهُ منْ جسدهِ، حتَّى تخرجَ منْ تحتِ أظفارهِ».
وأخرجَ مسلمٌ عنْ أبِي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ – أَوِ الْمُؤْمِنُ – فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ – أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ – أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ – حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
وهذَا الوضوءُ لَا يصحُّ إلا بعدَ الإتيانِ بفروضهِ الستةِ، وقدْ ذكرهَا اللهُ نصًّا واستنباطًا فِي قولهِ تعالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]
الفرضُ الأولُ/ غسلُ الوجهِ: وهوَ طولاً منْ منابتِ الشعرِ إلَى الذقنِ وعرضاً منْ الأذنِ إلَى الأذنِ، واللحيةُ الكثيفةُ يغسلُ ظاهرهَا والخفيفةُ التِي يُرَى ما وراءَها من الخدِّ يغسلُ مَا وراءَها وجوبًا
الفرضُ الثانِي/ غَسلُ اليدُ إلَى المرفقِ، ويجبُ إدخالُ المرافقِ فِي الغسلِ، ويخطئُ بعضُ الناسِ ويبدأُ بالرسغِ، والواجبُ أنْ يبدأَ بأطرافِ الأصابعِ
الفرضُ الثالثُ/ مسحُ الرأسِ: وأكملُه أنْ يبدأَ بمقدمِ رأسهِ حتَّى يذهبَ بهمَا إلَى قفاهُ لحديثِ عبداللهِ بنِ زيدٍ فِي ذكرِ صفةِ وضوءِ النبيِّ ﷺ ” بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الـمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ “.
ومنَ الرأسِ الأذنانُ فيستحبُّ أنْ يدخلَ أصبعيهِ السباحتينِ فِي أذنيهِ ويمسحُ بإبهامهِ ظاهرَ الأذنينِ، ثبتَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو -رضيَ اللهُ عنهمَا – فِي صفةِ الوضوءِ – قالَ: ثمَّ مسحَ ﷺ برأسهِ، وأدخلَ إصبعيهِ السباحتينِ فِي أذنيهِ، ومسحَ بإبهاميهِ ظاهرَ أذنيهِ. أخرجهُ أبو داودَ، والنسائيُّ .
أما مسحُ العنقِ فلمْ يصحَّ فيهِ حديثٌ عنْ رسولِ اللهِ ﷺ فلَا يصحُّ أنْ يفعلَ
الفرضُ الرابعُ/ غسلُ الرجلينِ إلَى الكعبينِ، ويستحبُّ تخليلُ أصابعِ الرجلينِ أخرجَ الأربعةُ عنْ لقيطِ بنِ صبرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «وخللَ بينَ الأصابعِ».
الفرضُ الخامسُ/ الموالاةُ. وهيَ أنْ يغسلَ أعضاءَ الوضوءِ بعضَها عقبَ بعضٍ ولا يتأخرَ، ولوْ تأخرَ بمقدارِ أنْ يجفَّ العضوُ الذِي قبلَه، وجبَ عليهِ إعادةُ وضوئِهِ، وقدْ ثبت عندَ أحمدَ وأبِي داودَ عنْ خالدِ بنِ معدان َعنْ بعضِ أصحابِ النبيِّ ﷺ أنَّ النبيَّ ﷺ رأَى رجلًا يصلِّي وفِي ظهرِ قدمهِ لمعةٌ قدرَ الدرهمِ، لمْ يصبهَا الماءُ فأمرهُ النبيُّ ﷺ أنْ يعيدَ الوضوءَ والصلاةَ.
الفرضُ السادسُ/ الترتيبُ بينَ أعضاءِ الوضوءِ للآيةِ.
أما الترتيبُ بينَ اليمينِ واليسارِ مستحبٌّ لمَا أخرجَ الشيخانِ عنْ عائشةَ قالتْ: كانَ النبيُّ ﷺ «يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ، فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ».
هذهِ هيَ فروضُ الوضوءِ الستةِ منْ أتَى بهَا معَ شروطهِ صحَّ وضوؤُه
أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ فاستغفروهُ إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ
الخطبة الثانية:
لْحَمْدُ للهِ الذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، الْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لِنُورِ الإسْلامِ، وَأَرْشَدَنَا لِطَرِيقِ الْعِلْمِ وَالإيمَانِ، وَالصَّلًاةُ والسًّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ محمدٍ، بعثهُ في الأُمِّيينَ يتلو عليهمْ آياتِهِ ويُعلِّمُهُم الكتابَ والحِكمةَ، أما بعد:
فإنَّ للوضوءِ مستحباتٍ حريٌّ بالمسلمِ أنْ يحرصَ علَى الإتيانِ بهَا، منهَا حضورُ القلبِ عندَ الوضوءِ، واستشعارُ التعبدِ بهِ وأنهُ مكفرٌ للذنوبِ، ومنهَا تكرارُ الوضوءِ ثلاثاً لحديثِ عثمانَ فِي الصحيحينِ فقدْ ذكرَ الوضوءَ مكرراً ثلاثاً، ما عدَا الرأسَ يمسحُ واحدةً لحديثِ عليِّ بنِ أبِي طالبٍ عندَ أبِي داودَ أنَّ رسولَ اللهِ مسحَ رأسَهُ واحدةً.
ومنهَا التسميةُ عندَ الوضوءِ، ومنهًا إسباغُ الوضوءِ وهوَ إنقاؤهُ كَما قالهُ ابنُ عمرَ علقهُ البخاريُّ، ومنهَا المبالغةُ فِي الاستنشاقِ لمَا أخرجَ الأربعةُ عنْ لقيطِ بنِ صبرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا».
ومنهَا أنْ يقولَ بعدَ الوضوءِ أشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ، أخرجَ مسلمٌ عن عمر «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
ومنَ الناسِ منْ يرتكبُ بعضَ المخالفاتِ عند َوضوئهِ منهَا: عدمُ إسباغهِ وضوءَه علَى الأعضاءِ كلهَا لاسيمَا فِي القدمينِ وعندَ المرفقينِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «ويلٌ للأعقابِ منَ النارِ» متفقٌ عليهِ.
ومنهَا أنْ يبقَى فِي رجلهِ أو يدهِ بعضُ الأصباغِ (البُويه) ولا يزيلهَا، ومنهَا أنْ يذكرَ اللهَ عندَ كلِّ عضوٍ كأنْ يقولَ عندَ غسلِ يديهِ: اللهمَّ اجعلنِي ممنْ يأخذُ كتابهُ باليمينِ وهكذَا…وهذَا منَ البدعِ.
إلَى غيرِ ذلكَ منَ الأخطاءِ التِي علاجهَا العلمُ وطلبهِ، والرجوعُ إلَى العلماءِ الموثوقينَ وكتبهم ْوفتاويهمْ كالعلامةِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ والعلامةِ الألبانيِّ والعلامةِ ابنِ عثيمينَ – رحمهمُ اللهُ – والعلامةِ صالحٍ الفوزانَ – حفظهُ اللهُ –
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ فقهْ المسلمينَ فِي دينهمْ واجعلهمْ بهِ متمسكينَ.
وقومُوا إلَى صلاتكِمْ يرحمْكم اللهُ