إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا , من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم, وعلى آله, وأصحابه, وأتباعه, ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
صلى عليه الله يا علم الهدى … واستبشرت بقدومك الأيام
هتفت لك الأرواح من أشواقها … وازّينت بحديثك الأقلام
أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار .
أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
منِ اتَّقى الله وقاه، ومن كلِّ كربٍ أنجاه .
عِبادَ الله، حينَ تنشُر الشّمس أشعَّتَها اللاّهِبَة ، ويشتدّ الحرُّ ويعرَق الناسُ في كلّ حركة وتنقُّلٍ ويبلغ الجَهدُ البدَنيّ والنّفسيّ بالنّاس مبلَغًا تضيق به نفوسُهم فإنهم يُهرعون إلى الظّلِّ وإلى وَسائل التّبريدِ، ورُبما بَلَغ بهمُ الجزعُ إلى الهُروبِ بعيدًا إلى البِلادِ البارِدَة والأجواءِ المعتَدِلَة؛ يتفيّؤون الظلال ويسكنون الجبالَ.
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَعثا
ويألفُ الظلَّ كي تبقى بشاشته فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جدثًا
في ظل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجَهَازٍ تبلُغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
والمؤمن يعيش حياته دائم التفكر والاعتبار ،
وبوقفةِ تأمّلٍ في تلكم الحال يتذكَّرُ المسلم وَقفةً عظيمة لا مناصَ عنها وكُربَةً شديدةً لا مفرَّ منها، وذلك حين يجمَع اللهُ الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الداعي ويَنفُذُهم البَصَر، ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسين ألف سنة، في ذلك اليوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق مقدارَ مِيل، فلا ماءَ ولا شجَر، ولا ظلَّ ولا مدر، ولا حتى حَجَر. فأينَ المفرُّ؟! وإلى أين يكون المستقرّ؟! أإلى الجنّة أم إلى سقر؟ إنّه يوم تشتدّ فيه الكربةُ وتضيقُ النّفوس، عنِ المقدادِ بن الأسودِ قال: سمعتُ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: ( تُدنى الشَّمسُ يومَ القيامَةِ مِنَ الخلقِ حتى تكونَ مِنهم كمِقدارِ مِيل، فيكون الناسُ على قَدرِ أعمَالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعبَيه، ومِنهم مَن يكون إلى رُكبَتَيه، ومِنهم من يكون إلى حقوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرَقُ إلجامًا)، قال: وأشار النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بيدِه إلى فيه. رواه مسلم. وفي الصّحيحين أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال:(إنَّ العرقَ يومَ القيامة ليَذهَب في الأرضِ سبعينَ بَاعًا، وإنّه ليبلُغ إلى أفواهِ النّاس أو إلى آذانهم).
عباد الله : وفي خِضَمِّ هذهِ الشّدائِدِ والكُرَب وبَينَما النّاسُ في همٍّ وغمٍّ وعذابٍ وضَنك إذَا بِفِئامٍ من المؤمِنين ممّن أكرَمَهم الله تعالى ليسوا مِن هذه الشدَّةِ في شَيءٍ؛ إنهم في ظِلِّ عرشِ الرّحمن، قد اصطَفَاهم الله فأكرَمَهم ورَعَاهم في كَنَفِه وأحاطَهم بلُطفه، فهم في ظلٍّ وارِف حتى يُقضَى بين العِباد.
في الصحيحين أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال:(سَبعةٌ يظِلّهم الله تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه).
عباد الله : إنَّ الجامعَ بين هذه الأصنافِ السَّبعةِ هو خشيةُ الله تعالى بالغيبِ وتقواهُ في السرِّ والعلَن وتقديمُ أمرِ الله على هوَى النفس مع قُدرتهم على خِلافِه؛ فالإمام يعدِل مع قدرتِه على الحيفِ والظّلم، لكنه عظَّم الله في قلبِه وعلِم قدرتَه عليه ، فاتَّقى الله في أمانتِه، ويدخُل فيه كلُّ مَن إليهِ نظرٌ في شيءٍ من مَصالح المسلمين كما قالَ النوويّ رحمه الله ولو صغرت ولايته أو إدارته ورئاسته.
أمّا الشابُّ الذي نشَأ في عبادةِ الله فقَد شَبَّ وتَرَعرَع متلبِّسًا بالعِبادةِ مُلتَصِقًا بها، لم تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّبابِ، ، بل غلَب نفسَه في عُنفُوان شبابِه فلم تكن له صبوةٌ ولا كَبوَة. وأمّا الذي تعلَّق قلبه بالمساجِد فهو شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعَة فيها، فقَلبُه مع الصّلاة وفِكرُه مشغولٌ بها، يتحيَّن وقتَها، ويترقَّب نِداءَها ، لا يكادُ ينتهي مِن صلاةٍ حتى يشتاق للأخرى؛ إنّه الأنسُ بالله.
أمّا الحبُّ في اللهِ فهو مِن أوثقِ عُرى الإيمانِ، وهو عملٌ قلبيّ يطَّلعُ عليه مَن يَعلَم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصّدور، فهو سبحانَه أعلَمُ بمَن أحبَّ لله ووَالى في اللهِ، اجتَمَع المسلِمَانِ على المحبَّةِ والمودّة لله وفي الله، لم يجمَعهما عرَضٌ من الدّنيا زائِل، بل هو الصِّدق والإخلاص .
أمّا العفيفُ الوَرِع فمع اجتِماعِ أسبابِ المعصيَةِ وتوفُّر دواعِيها وقُدرتِه على الحرام في حالِ الخَلوَة والأمانِ إلا أنَّ خوفَ الله في قلبِه أعظمُ مِن هذه الفِتنةِ وأقوى من هذا البلاء.
والمنفِقُ المتصدِّق بالغَ في الإخلاص وأبعَدَ عنِ الرّياء ؛ يبتَغي بذلكَ وجهَ الله.
والأخيرُ رَقيقُ القلبِ حاضِرُ الإيمان، إنّه المختَلِي بدمعَتِه، لم يُراءِ بها، إنَّ الإنسانَ ليقدِرُ علَى النشيجِ والصّراخ أمامَ الناس مجاراةً لهم أو تأثُّرًا بهم، لكن من الذي يذكُر الله في الخَلوةِ فتَفيضُ عينُه ويَهمل دَمعُه خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا؟! إنّه الإيمانُ واليقين.
ومن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أَنْظَرَ مدينه المعسر الذي لا يستطيع السداد أو أسقط الدين من ذمته، ففي صحيح مسلم أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ” مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ ” .
عبادَ الله، هذه المُثُل العاليةُ والمواقِف الجلِيلَةُ ليسَت سَهلَةَ المنال لكلِّ خوّارٍ أو بطَّال، إنها مَواقفُ يُؤثِر فيها المؤمِنُ رضا الله على رِضا غيرِه وإن عظُمَت فيه المحَن وثقُلَت فيه المُؤَنُ.
فاللّهمّ احشُرنا في زُمرة أوليائِك، وأظِلَّنا في ظلّ عرشِك يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّك.
بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية : |