أثر الغزو الفكري الحركي ودخول الجماعات الحركية على المملكة العربية السعودية
د. عصام بن عبدالله السناني
أثر الغزو الفكري الحركي ودخول الجماعات الحركية
على المملكة العربية السعودية
وما ترتب على ذلك من أضرار وفساد
إني لما رأيت النفع العظيم -ولله الحمد- بكتابي السابق لدورات المناصحة “حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة” نشطت في نشر هذا الكتاب [التحرير في بيان أحكام التكفير]، الذي طُبع في مكتبة الإمام الذهبي بالكويت ثلاث طبعات احتسابية، وزعت منها على لجنتي المناصحة في الرياض والقصيم ألف نسخة، وضعت في غرف الموقوفين، فصار له الأثر الواضح الذي رأيته أثناء المناصحات -بفضل الله-.
وأما كتابي الثالث الذي ألف في “المناصحات” قديمًا، وهو كتاب “جهاد المسلمين بين فهم الغلاة وتخذيل المرجفين” فلم أنشط لمراجعته -حتى اليوم-.(1)
[[(1) سوف تصدر الطبعة الأولى منه بعد المراجعة والتحرير -بإذن الله- خلال الأشهر القادمة. كما ستصدر كذلك معه الطبعة الثانية من كتابي “أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخل في مسمى الإيمان” بزيادات، بتقديم شيخنا صالح الفوزان -حفظه الله-]].
بسبب انشغالي بالمشاركة بتأليف كتاب للرد على عصام المقدسي، أحد منظري التكفير الخارجي، وصاحب كتاب “الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية”، بتكليف من سمو وزير الداخلية، بواسطة “مركز بصيرة للبحوث والدراسات الفكرية”، لكني قمت بنشره على الشبكة العنكبوتية بنسخته غير المحررة، ثم أدخلت كثيرًا من مباحثه ضمن كتاب “الرد على شبهات أهل الغلو في المملكة العربية السعودية – الجزء الأول” عن تكليفي بمراجعته من قبل سمو وزير الداخلية، بواسطة “مركز بصيرة للبحوث والدراسات الفكرية”.
إنه من خلال تدريسي في المدارس والجامعات والمناصحات والمساجد خلال ما يقارب ثلاثة عقود؛ تَبَيَّنَ لي تغلل الأفكار المنحرفة في كثير من عقول أبنائنا -ذكورًا وإناثًا- بطرق مختلفة من أخطرها: الغزو الفكري الحركي الذي نتج من دخول بعض الجماعات الحركية في بلادنا، فتولى بعض أعضائها أو المتأثرون بها التوجيه والإرشاد، ونشروا الكتب الفكرية التي توضح تصورهم، وهي مخالفة لما قامت عليه الدعوة الإصلاحية في هذه البلاد، فصرنا كمن كمن لف الحبل حول عنقه:
– فبعض الجمعيات والنشاطات المدرسية في ذلك الوقت تولاها بعض المتأثرين بهذا الفكر الحركي الذي يناضلون عنه، ولا يرون الصواب في غيره، ولا يسمحون لمن لم يكن على منهجهم أن يدخله.(2)
[[[(2) لقد درست أول حياتي الوظيفية في مدارس وزارة التربية والتعليم، فرأيت ذلك عيانًا، من ذلك: أني لما كلفت في مدينة الرياض من قبل مدير المدرسة بالإشراف العام على جمعية التوعية لم أستطع السيطرة عليها؛ لأن المسؤول المباشر فيها أقنع الطلاب أن لا يتعاملوا إلا معه، ثم التف على المدير بعد ذلك.
أما بعد عودتي من للمنطقة فرأيتهم يكلفون الطلاب بالبحث والكتابة عن سير العلماء الذين وقفوا ضد الحكام وابتعدوا عن الدخول عليهم، لتكريههم بعلماء السنة في المملكة.
ورأيتهم يدربون الطلاب تدريبات عسكرية غريبة، يصاحب ذلك بث لفكر الجهاد؛ للدفاع عن الأمة بالكلمات والأناشيد والمسرح، دون الإشارة لضوابط الجهاد وشروطه وموانعه.
وقد أخبرني شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- مرة أنه حضر بعض الجمعيات ذات يوم، فقام مدرسهم يتكلم بقوة عن فضل العز بن
عبد السلام، ويشيد بموقفه الصارم من حكام عصره، قال الشيخ: فصبرت حتى انتهى اجتماعهم؛ لأني لا أريد أن أفسد فرحة الطلاب في الحفل، فقلت لهذا المدرس بعد نهاية الحفل لوحده: دعك في دروسك وما كلفت به، أما العز بن عبد السلام فقد خالفه من هو أكبر منه وأعلم وأتقى من علماء الأمة]].
وحتى في الجامعات -التي يفترض أنها وضعت لإخراج جيل على منهج التوسط والاعتدال يخدم وطنه- صار الغالب فيها هو التحذير ممن يوصل الفكر الصحيح للطلاب(3)، وإن كان له نشاط علمي وحضور وتأثير يبعد بأي وسيلة(4).
بينما كانت كتب رموز الجماعات الحركية هي الكتب المتداولة بالمكتبات المدرسية والجامعية، والمراجع في كثير من البحوث.
[[(3) في إحدى دورات المناصحات الفكرية في سجن الحائر سنة 1426هـ وجدت في قاعة الدورة العلمية أحد طلابي الذين درستهم في الجامعة، فحزنت لذلك، وتجاهلته حتى انتهت الدورة، وفي آخر درس لحقني خارج القاعة فمنعه الضابط، فقلت له: دعه. فلما جاء إلي قال: ما عرفتني؟ فقلت: بل عرفتك أول ما رأيتك. فقال: أين أنتم عنا يا شيخ؟ فقلت له: يا فلان؛ ألم أطالبك في الجامعة قبل سنوات بوضع ملخص لنفس هذا الكتاب الذي درسته لك الآن “حقيقة الولاء والبراء” مقابل درجات النشاط؟ قال: بلى؛ ولكن كنا لا نسمع منك شيئًا أبدًا، كأن على آذاننا قطنًا؛ لأننا قبل أن نأتي للجامعة ونحن في المعهد كنا نحذر من أشخاص في الجامعة، وأنت أحدهم، ووالله لما رأيت اسمك في مدرسي الدورة في السجن أصابني الخوف، ولكني الآن عرفت الحق. فقلت له: إن الذين منعوك أن تسمعني وأمثالي من الناصحين في الكلية هم الذين جعلوك لا تسمعه إلا بالسجن، ولكن يا فلان؛ إن كنت الآن عرفت الحق فالزمه، وولاة الأمر لم يأتوا بطلاب العلم لكم إلا لتهيئتكم للخروج بعد إزالة الشبهات عنكم، ولكن اصدق الله يصدقك.
بل أذكر في تلك الفترة أني لما أعطيت الطلاب الكتاب ليختصروه، فأثنوا على معلومات في الكتاب لم يجدوها في غيره عند أحد دكاترة العقيدة، فقال لهم الدكتور بعد فترة -كما أخبروني-: ما كتبه الدكتور عصام صحيح، لكن لا ينطبق على حكام هذا العصر. وبسبب مثل هذا التكليف للطلاب وجه لي خطاب من الكلية -أحتفظ به- يفيد بأن طلابًا قد اشتكوا علي لتكليفهم بأعمال خارج المنهج.
(4) مع أني عضو في لجان المناصحة، فقد رشحت مرارًا لإقامة بعض المحاضرات في مدارس التعليم العام مع بعض الإخوة أصحاب الطرح السليم، لكن في أول الأمر كان يعتذر بأن التوجيه في إدارة التعليم ومكتب الدعوة اتفقوا على أن لا يقيم المحاضرات في المدارس إلا أعضاء مكتب الدعوة الرسميين.
ولما تولى مكتب الدعوة رجل عاقل وضع لي جدولًا في بعض المدارس، ولما أردت الذهاب للمدرسة الثانوية في الوقت المحدد وسألت عنها، فقال لي أحد الإخوة وهو يضحك: هذه الثانوية باقي على افتتاحها ستة أشهر.
ومرة أخرى أردت الذهاب فاعتذرت لي المدرسة؛ لوجود ظرف طارئ، فتركتهم ولم أعد للذهاب للمدارس.
وقد أخبرني أحد الإخوة أنه وضع له محاضرات كثيرة تزيد على عشرين مرة، لم يلق واحدة منها، مع أنه أستاذ في الجامعة وخطيب جامع وعضو مناصحات وعضو في اللجنة الاستشارية في وزارة الشؤون الإسلامية في منطقة القصيم]].
– وأما منابر الجمع فأغلبها قديمًا لا تتحدث عن بيان الأفكار المنحرفة، ولا تجلي المنهج الحق بوضوح تام عند حدوث الأمور المؤثرة على أمن البلاد، كمسائل الإرهاب والتفجير وذهاب كثير من شبابنا لمناطق القتال بزعم الجهاد، حتى اضطرت وزارة الشؤون الإسلامية لوضع برامج محاضرات منهجية لخطباء الجوامع في المسائل المنهجية، مع مراقبة لبعض الخطب التي يراد منها بيان الحق في هذه الأمور.(5)
[[(5) قال صاحب السمو الملكي الأمير نايف -رحمه الله تعالى- في لقاء مع منسوبي وزارة الشؤون الإسلامية (جريدة الرياض – 5/ 6/ 1428هـ): (حسب ما علمت من وزير الشؤون الإسلامية أن في البلاد -المملكة- أربعة عشر ألف مسجد جمعة، إذًا لدينا في الشهر تقريبًا (56) ألف منبر جمعة. بالتأكيد لو قامت كل هذه المنابر بالواجب عليها، وركزت على واقعنا، وأهملت (ليس إهمالًا كاملًا، ولكن لا تعطيها أولوية لأوضاع أخرى خارج الوطن) لو ركزت على شرح ضلال هؤلاء وتحذير الناس من الانخراط أو الاستماع أو القبول أو التعاون مع هؤلاء؛ لاهتدى أناس كثير، إذًا عليكم مسؤولية كبيرة، وإن شاء الله أنتم أهل لها، لا بد أن تتحمولها،
لا بد أن نشعر على أرض الواقع بعملكم وجهادكم. وبالتأكيد ستثابون على هذا من الله -عز وجل-، وسيشكركم كل إنسان في هذا الوطن، وعلى رأسهم ولاة أمرنا، وسنحس أننا عملنا ما يجب أن نعمل على محورين أساسيين، وهو العمل الأمني والفكري، ولا شك أن العمل الفكري أدق وأهم؛ لأن الفكر يعم الكثير، وينتشر كثيرًا، والجريمة لا تظهر إلا وقت التنفيذ والنوايا)]].
– وأما وسائل التواصل والإعلام بمختلف وسائله فهو في بداية الأحداث كان مرتعًا خصبًا لبرامج التهييج والإثارة العاطفية على القتال الأخير في أفغانستان، أيام دولة طالبان.(6)
[[(6) سمعت شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في مرض موته يقول عن القتال الأول في أفغانستان مع الشيوعيين: أفتينا الشباب بالذهاب لأفغانستان لجهاد الكفار، فرجعوا وعاطفة أحدهم تكاد تحمله بين السماء والأرض ليقول: أفتني أقتل فلانًا وفلانًا. وكأن الناس دجاج أو نعاج. ا.هـ.
لذا فعلماء وعقلاء هذه البلد يتوقفون بعد هذا ألف مرة قبل أن يقدم أحدهم على إباحة إرسال أبنائنا لأمكنة تكون مرتعًا جديدًا لتأثرهم بالأفكار التكفيرية الإرهابية]].
ثم العراق بشكل صريح أو غير صريح، عن طريق ما يكتبه أو يقوله بعض الدعاة، والتي أقر جماعة من الموقوفين بأنها أحد الأسباب الرئيسية لذهابهم لتلك المناطق.
فلما بدأت المملكة العرببية السعودية بمواجهة الإرهاب والتفجير من الفئة الضالة؛ اخترق بعض هذه الوسائل من يفتعل المعارك الجانبية مع بعض فئات المجتمع المختلفة، مما يزيد في تفكك لحمته.(7)
[[(7) كنت كتبت لصاحب السمو الملكي الأمير نايف -رحمه الله تعالى- خطابًا سلمته له بيده مرفقًا به بعض المقالات المنحرفة، وفيه: (قد تشرفت أن كنت ضمن أعضاء لجان المناصحة منذ بدايتها، ومن خلال تجربتنا مع هؤلاء الموقوفين عولجت الكثير من الشبه لديهم -ولله الحمد- وتم بيانها، إلا أن الأمر الذي كان يؤرقنا، ونحرج عند السؤال عنه، ولا نستطيع الإجابة عليه بشكل يقنعهم؛ هو ما يكتبه بعض المنحرفين في الجهة الأخرى في صحفنا اليومية من نقض لثوابت هذا الدين والتوحيد الذي قامت عليه هذه الدولة، فيحمّل هؤلاء الموقوفون الدولة مسؤولية السماح لهم؛ ليقدحوا في الدين… إن ما يبنيه المناصحون في سنوات يهدمه هؤلاء الكتاب في بمقال واحد، إنهم من أسباب الإرهاب في بلادنا، نحن الذين نناصح الموقوفين نتألم من مقالات هؤلاء أشد الألم، فكيف بأكثر الشباب المتحمس الذي إذا قرأ هذا الهجوم على دينه سهل اصطياده من قبل منظري الفكر الضال… ونحن نفزع إليكم -بعد الله- لإيصال مثل هذه المقالات لخادم الحرمين وولي العهد من قبلكم شخصيًا، فهذا من أعظم إنكار المنكر إذا جرى على يديكم، والذي سيكتب الله لكم به الذكر بين العالمين: يقول تعالى: {الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة آتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، والذي نعتقده وندين الله به أنهم لو علموا بمثل هذا الكلام لما رضوا به، لكن هناك من يلبس الحق بالباطل، وإلا فهل يمكن أن يرضى مسلم بمثل هذا الطعن في عقيدته؟).
فوعد سموه -رحمه الله تعالى- بفعل ما يستطيع لمنعهم، وقد فعل حينما صدر القرار الملكي برقم (أ/93) بتاريخ 25/ 5/ 1432هـ الذي نُشر في جميع الصحف -ومنها: صحيفة الشرق الأوسط في 16/ 5/ 1432هـ العدد 1184)- القاضي بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر التي تؤكد على الحظر الإساءة إلى الدين الإسلامي، وبإحالة من يقوم بذلك للمحكمة المختصة، ومبينًا سبب هذا التعديل بقوله: (وانطلاقًا من هدي شرعنا المطهر بحفظ الكلمة وصيانتها، وتحمل مسؤوليتها والتحذير من خطورتها على الفرد والمجتمع، ولما لاحظناه على بعض وسائل الإعلام من التساهل في هذا الأمر بالإساءة أو النقد الشخصي، سواء لعلمائنا الأفاضل المشمولين بأمرنا رقم [أ/71] بتاريخ 13/ 4/ 1432هـ، أو غيرهم ممن حفظت الشريعة لهم كرامتهم وحرمة أعراضهم: من رجال الدولة، أو أي من موظفيها، أو غيرهم من المواطنين. ومما جاء تعديل المادة (التاسعة) لتصبح بالنص التالي: “يلتزم كل مسؤول في المطبوعة بالنقد الموضوعي والبناء الهادف إلى المصلحة العامة، والمستند إلى وقائع وشواهد صحيحة، ويحظر أن يُنشر بأي وسيلة كانت مما يلي: 1- ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة. 2- ما يدعو إلى الإخلال بأمن البلاد أو نظامها العام أو ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية. 3- التعرض أو المساس بالسمعة أو الكراهة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الإعتبارية الخاصة”)]].
ولذا فإنني أعتقد أنه لا خلاص لهذه البلاد السعودية من هذه الأفكار المتطرفة المتسلسلة إلا بإنشاء جهاز للأمن الفكري الوطني، توضع له الخطط والأفكار الجادة الحازمة من قبل المختصين في مختلف التخصصات، وفي مقدمتهم سماحة المفتي وهيئة كبار العلماء، ويكون هذا الجهاز مستقلًا يرتبط بالملك مباشرة كجهاز مكافحة الفساد، بحيث تفرض برامجه على أجهزة الإعلام ووزارة التربية والتعليم والجامعات ومنابر الجمع وجميع المناشط العامة والخاصة بخطة تكاملية يحاسب فيها المقصر؛ ليخرج جيل محصن ينتهج منهج الوسطية والاعتدال.(8)
[[(8) كنت دعوت لهذا المشروع في ورقة العمل التي طرحتها في مؤتمر الحوار الوطني في اللقاء التاسع بتاريخ 5/ 1/ 1431هـ، وكان عنوان اللقاء “واقع الخطاب السعودي وآفاقه المستقبلية” وكان في ذلك الوقت منقولًا على القنوات الرسمية]].
[مقتبس من مقدمة كتاب “التحرير في بيان أحكام التكفير” للشيخ عصام بن
عبد الله السناني، بتقديم وتعليق العلامة صالح الفوزان (ص7-12)].