د. عبدالله بن عبدالعزيز البدراني
الإمام ابن باز ومبادرات السلام
د . عبدالله بن عبدالعزيز البدراني جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله من أئمة الإسلام الأعلام الذي أجمعت الأمة على إمامته وغزارة علمه وفقهه وصدقه وإخلاصه في النصح للإسلام والمسلمين , وكانت قضايا المسلمين وجراحاتهم محل عنايته واهتمامه ومتابعته وعلى وجه الخصوص قضية المسلمين الأولى قضية فلسطين الجريحة ، وكانت له المقالات والفتاوى المهمة المبنية على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة في شأن واقع المسلمين في فلسطين وتوجيههم نحو الأسلم والأصلح لدينهم ودنياهم في قبول الصلح والسلام مع اليهود عملا بقول الله تعالى ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها )) وسوف أنقل لك أخي القارئ بعضا من فتاوى سماحة الشيخ رحمه الله حول هذا الموضوع كما في مجموع الفتاوى المجلد الثامن من ص 212 إلى ص 229 ومن تلك الفتاوى أن الشيخ سئل رحمه الله عن حكم الصلح وعقد الهدنة مع اليهود فأجاب قائلا :
(( تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقته , إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك ؛ لقول الله سبحانه : ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)) , ولأن النبي ^ فعلهما جميعاً , كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين , يأمن فيها الناس , ويكف بعضهم عن بعض , وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً , فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم , وأجَّل من لا عهد له أربعة أشهر , كما في قول الله سبحانه: ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)) وبعث ^ المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه , ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة , كما فعل ذلك النبي ^ , وقد بسط العلاَّمة ابن القيم ــ رحمه الله ــ القول في ذلك في كتابه (أحكام أهل الذمة) , واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم . والله ولي التوفيق .
ولما سئل عن خلاف الفلسطينيين في قبول الصلح مع اليهود أو عدم قبوله أجاب قائلا : (( ننصح الفلسطينيين جميعاً بأن يتفقوا على الصلح , ويتعاونوا على البر والتقوى ؛ حقنا للدماء , وجمعاً للكلمة على الحق , وإرغاماً للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف وعلى الرئيس وجميع المسئولين أن يحكموا شريعة الله , وأن يلزموا بها الشعب الفلسطيني ؛ لما في ذلك من السعادة والمصلحة العظيمة للجميع , ولأن ذلك هو الواجب الذي أوجبه الله على المسلمين عند القدرة )).
وعندما سئل عن الصلح مع اليهود بأنه يلزم منه مودة اليهود ومحبتهم وموالاتهم قال رحمه الله :
((الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم , بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين , وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر , وغير ذلك , كالبيع والشراء, وتبادل السفراء .. وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم .
وقد صالح النبي ^ أهل مكة , ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم , بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم , حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً , وهكذا صالح النبي ^ يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجراً صلحاً مطلقاً , ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم , لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم , ودعوتهم إلى الله , وترغيبهم في الإسلام . ومات ^ ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.))
وقال أيضا :((ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة , ولا محبة , ولا موالاة : أنه ^ لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين , ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد , ولم يحدد مدة معينة , بل قال ^ : « نُقِرُّكُم على ذلك ما شئنا » , وفي لفظ: « نقركم ما أقركم الله » , فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه , وروي عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص , فقال رضي الله عنه : والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم , فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم , وإن شئتم أخذناه بذلك , وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة , ولا موالاة , ولا مودة لأعداء الله , كما يظن ذلك بعض من قَلَّ علمه بأحكام الشريعة المطهرة .
وعندما سئل عن الصلح مع اليهود بأنه يلزم منه تمليك اليهود ماتحت أيديهم تمليكا أبديا قال رحمه الله :
((الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكاً أبدياً , وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكاً مؤقتاً حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة , وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في دين الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.))
ولما صدرت هذه الفتاوى من سماحة الشيخ رحمه الله عارضه الدكتور يوسف القرضاوي بأن الصلح مع اليهود لايجوز لأنهم غاصبون فعقب عليه سماحة شيخنا رحمه الله بمقال واضح وكلام مؤصل على وفق النصوص الشرعية والمصالح المرعية المجردة من العاطفة أو الحماس ولأهمية هذا المقال سوف أنقله للقراء كاملا دون زيادة أو نقصان:
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإِحسان إلى يوم الدين , أما بعد:
فهذا إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ : يوسف القرضاوي المنشور في مجلة (المجتمع) العدد1133 الصادرة يوم 9شعبان 1415هـ. الموافق 10/1/1995م. حول الصلح مع اليهود , وما صدر مني في ذلك من المقال المنشور في صحيفة (السلمون) الصادرة يوم 21رجب 1415هـ جواباً لأسئلة موجهة إلي من بعض أبناء فلسطين .
وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك ؛ ليأمن الفلسطينيون في بلادهم , ويتمكنوا من إقامة دينهم .
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب؛ لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم… إلى آخر ما ذكره فضيلته .
وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتقده , ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته : يرجع فيه للدليل , وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ^ . وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف ؛ لقول الله عز وجل: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً)) , وقال سبحانه : ((وما اختلفتُم فيه من شيءٍ فحُكُمهُ إلى الله)) , وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة .
ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته , وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت , وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم الجمعة 19/8/1415هـ الموافق 20/1/1995م وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك .
ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم : إن قريشاً قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم , كما قال تعالى في سورة الحشر : ((للفُقَرَاء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغُونَ فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أُولئك هم الصادقُون)) , ومع ذلك صالح النبي ^ قريشاً يوم الحديبية سنة ست من الهجرة , ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم ؛ مراعاةً للمصلحة العامة التي رآها النبي ^ لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم , ولمن يرغب الدخول في الإِسلام .
ونقول أيضاً: جواباً لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو : لو أن إنساناً غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها .. أجاب الشيخ يوسف : أن هذا الصلح لا يصح . وهذا غريب جداً , بل هو خطأ محض , ولاشك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه , واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج ؛ لعجزه عن أخذ حقه كله , وما لا يدرك كله لا يترك كله , وقد قال الله عز وجل : ((فاتقوا الله ما استطعتم)) , وقال سبحانه : ((والصلح خيرٌ)) , ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله , خير من بقائه في العراء .
أما قوله عز وجل : ((فلا تهنوا وتدعو إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يَترِكُمْ أعمالكُم)) , فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه , فإنه لا يجوز له الضعف , والدعوة إلى السلم , وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه , أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم , كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية , وقد دعا النبي ^ إلى السلم يوم الحديبية ؛ لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم , وأنه أولى من القتال , وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر ؛ لقول الله عز وجل : ((لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ)) الآية .
ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم , وفتح الله عليه البلاد , ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم , وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة .
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إِخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية , لا على العاطفة والاستحسان , مع الاطلاع على ما كتبته أخيراً من الأجوبة الصادرة في صحيفة (السلمون) في 19/8/1415هـ , الموافق 20/1/1995م, وقد أوضحت فيها : أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية , إن كانوا من أهلها , كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية , وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم ؛ تأسياً بالنبي ^ في حربه وصلحه , وتمسكاً بالأدلة الشرعية العامة والخاصة , ووقوفاً عندها , فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة .
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين ــ قادةً وشعوباً ــ لكل ما فيه رضاه , وأن يمنحهم الفقه في دينه , والاستقامة عليه , وأن ينصر دينه ويعلي كلمته , وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها , والحذر مما يخالفها , إِنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وآله وأصحابه , وأتباعه بإِحسان .