الانتصار للمجاهدين بحماية جناب التوحيد
د. حمد بن محمد الهاجري
الانتصار للمجاهدين بحماية جناب التوحيد
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين؛ أما بعد:
فلقد جاءت شريعة الإسلام صريحة واضحة في الأصول والمباني والكليات، وكان أهمّ واجب وأولى فرض أعلى الإسلام شأنه، وأشاد مناره هو منار توحيد الله تعالى، فقد جاء كتاب الله تعالى كلّه في التوحيد، وكانت حياة النبيّ صلى الله عليه وسلّم كلّها في بيان هذا التوحيد وإيضاح ما بسبيله من مسائل ومفردات في الأصول والفروع.
وبعد استقرار أساطين التوحيد ودعائمه الكبرى علمًا وعملاً، كان المجال لمعركة أخرى هي ضرورة لحماية هذا الأصل العظيم، والشراع الرفيع، وهي معركة ردّ أساليب إبليس في إيقاع العباد في الشرك والغواية.
وقد بيّن الله تعالى في كتابه العزيز خطورة منافذ إبليس إذ كان شأن أكثر النّاس في انصراف عن التوحيد، وانصرام لحبل الوصال مع الإخلاص، فتضاؤلُ تحقيق التوحيد وتخليصِه من شوائب الشرك غالب في جنس بني آدم فقال تعالى: ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) سورة يوسف؛ الآية: (103). وقال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) سورة يوسف؛ الآية: (106).
وبنى النبي صلى الله عليه وسلّم صرحًا متينًا لحماية جناب التوحيد، وأرشد أمّته إلى بذل غاية الوسع في ذلك، وضرب مثلاً بذلك كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها)) رواه البخاري برقم: (6483). ومسلم برقم: (2284).
ففي هذا الحديث تصوير بديع لإغواء إبليس لبني آدم حيث يظهر لهم الضلال في شكل الرغيب الفضيل ، فيتسابقون إليه وشرّ المضلات ما كان مرغوبًا !.
وفي هذا العصر ضعفت الدعوة إلى التوحيد في كثير من أنحاء العالم حتّى غدا الكلام فيه من الروتين الذي لا يلتفت إليه، مع كثرة سبل الغواية التي يترقى منها إبليس لإضلال العباد، وإيقاعهم في الشرك والكفر والإلحاد.
ومن تلك السبل والمظاهر ما استحدثه بعض المحسوبين على الدّعوة وأهلها، من وضع مزادات علنية لبيع آثار وعباءات و قمصان بعض من نحسبهم شهداء في سوريا أو لبعض المناصرين لهم بأسعار فلكية، بقصد مناصرة المجاهدين والمضطهدين في سوريا، وبذل المبالغ المالية لهم.
وهذا المقصد الحسن – وهو نصرة المجاهدين والمضطهدين – لا يبرر الوسيلة الممنوعة – وهي بيع الآثار في مزادات علنية بأسعار فلكية – التي تفتح على الناس ذرائع الشرك والغلو بالأشخاص، ولو كان ذلك على مدى بعيد.
فلا شك أنّ هذا الأمر سبيل ضلال وطريق غواية زينه إبليس لمن صدّق عليهم ظنّه.
وهو فوق ذلك ممّا يظهر المسلمين أهل سذاجة أمام الحضارات الأخرى، فإنّ الاعتقاد في الآثار والعباءات و القمصان إذا لم يكن مدعومًا بالوحي، كالحال لقميص يوسف عليه السلام، لا يكون سوى خرافة يعتقدها أهل الخفة في العقول، ولا يتعلق بها إلاّ السذّج البلهاء، وهذا يخالف بلا مرية نهج أصحاب التوحيد الخالص الذين لا يدينون الله تعالى إلاّ بالإخلاص و الاتباع.
فقد جاء هذا الإسلام العظيم بسد الذرائع إلى الشرك كما حصل في قوم نوح عليه السلام قال تعالى:( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) سورة نوح ؛ الآية : (23)، قال ابن عباس رضي الله عنه:” هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت”. أخرجه البخاري 3/316.
فلا جرم إذًا أنّ طليعة الذرائع هو الغلو في من يعتقد صلاحهم، وهذا يشمل الغلو في آثارهم وأدواتهم، ويكفي المسلم العاقل أنّ قميص أيّ شهيد اليوم مهما علا شأن شهادته لا يبلغ قطمير فضلٍ من قميص عمر الفاروق -رضي الله عنه – الذي استشهد فيه لما طعنه أبو لؤلؤ المجوسي، ولا يمكن أن يداني شيء من تلك القمصان القميص الذي كان يرتديه عليّ رضي الله عنه حين هاجم عليه ابن الملجم، لكن السلف بمنهجهم القويم رحمة الله عليهم لم يرسموا قائمة بتلك القمصان ولا عملوا لها ترتيبات، بل ولا احتفلوا بها بأيّ شكل من الأشكال، وما ذلك إلاّ لعلمهم الأصيل بحقيقة هذا الدّين، ومعرفتهم التّامة بمداخل الشيطان وسبله في الإغواء، ولنا فيهم وقبلهم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
ومع أنّ هذه القضية وهي الغلو في الآثار و القمصان لم تأخذ ذلك البعد حتى الآن، إلاّ أن الوسائل التي تنتشر بها المعلومات في هذا العصر تقتضي ضرورة اليقظة، ومتابعة الباطل بمثل أدواته، خاصة وأنّ الجهل غالب والفتنة منتشرة في أكثر ديار الإسلام وإبليس متربص، فكان لا بدّ من التنبيه عليه في هذا النطاق، وفاءً لواجب حماية جناب التوحيد وذكرى للذاكرين.
ولا يفهم من إنكارنا لهذا الأمر أننا نخذل من شأن الجهاد السوري، أو ضد إخواننا المضطهدين هناك، بل نحن مع إخواننا المسلمين المجاهدين والمضطهدين في سوريا وغيرها، ونناصرهم بما نستطيع، ولكن نصرتهم لا تكون بما يخالف شريعة الله، وإنما تكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه. قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) سورة محمد؛ : (7).
هذا ما اقتضى التنبيه عليه، و الله أسأل أن يرزقني وإياكم الإخلاص والسداد في القول والعمل، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يعجل بالفرج لإخواننا المستضعفين في فلسطين وسوريا وبورما وفي كل مكان، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : د. حمد بن محمد الهاجري
الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة الكويت
27/شعبان/1434 الموافق 6/7/2013