الجواب على من رد أحاديث السمع والطاعة واحتج على قوله بالمصلحة
د. ناصر بن غازي الرحيلي
الجواب على من رد أحاديث السمع والطاعة واحتج على قوله بالمصلحة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن مما جاءت به الآيات، وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأخبار، وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمور المسلمين .
قال الامام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في بيان ذلك ( …أن من تمام الاجتماع : السمع والطاعة لمن تأمر علينا ، ولو كان عبدا حبشيا ، فبـيَّن الله هذا بياناً شافياً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ).
ويحاول كثيرون إضعاف هذا الأصل، وذلك بإلقاء الشبه واتباع المتشابه من الأدلة الشرعية .
وإن من أعظم ما يشبهون به على أهل الإيمان زعمهم أن الأحاديث في السمع والطاعة إنما جاءت للمصلحة ، فإذا رأينا المصلحة في غيرها انتقلنا إلى ما نراه مصلحة .
وهذه الشبهة لا يذكرونها إلا بعد محاجتهم بالأحاديث الصحيحة الكثيرة ، وبالاجماعات المتواترة عن علماء أهل السنة ، فإذا رأوا أنهم لا يستطيعون رد الأدلة لكثرتها وتنوعها لجأوا إلى هذه الشبهة الشيطانية .
وقد راجت هذه الشبهة عند كثير من الناس عامتهم وخاصتهم ، وفيما يلي من نقاط بيان بطلان هذه الشبهة ، وعدم صحة الاستدلال بها على ما يريدون :
١- أن المصالح في الشريعة تنقسم إلى أقسام ثلاثة :
أ- مصالح معتبرة : وهي التي شهد الشرع باعتبارها ، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع .
مثاله: أمرت الشريعة بالابتعاد عن الزنا لأجل مصلحة حفظ الانساب . فحفظ الأنساب من المصالح المعتبرة شرعا .
ب- مصالح ملغاة : وهي التي شهد الشرع بإلغائها ، ولم يرتب حكمه عليها.
مثال : حرمت الشريعة الخمر والميسر مع أن فيهما مصلحة، كما قال تعالى (فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فهذه مصلحة ألغاها الشارع ولم يعتبرها، فلا يجوز لأحد بناء الحكم عليها .
ج- مصالح مسكوت عنها : وهي التي لم يأت فيها أمر ولا نهي . فهذه هي موضع اجتهاد العلماء .
ومن رحمة الله جل وعلا بخلقه أن أمرهم بما فيه نفع لهم ،ونهاهم عما فيه ضرر بهم ، ولم يترك لهم معرفة ذلك ، فإن الناس يتفاوتون في تقدير المصالح والمفاسد تفاوتا كثيرا ، فما يراه أحدهم مصلحة رأه الآخر مفسدة ، وما رأه الآخر مفسدة رآه الأول مصلحة ، وذلك بحسب تفاوت عقولهم ، وما يؤثر عليها من مؤثرات ، حتى إن الواحد منهم قد يرى المصلحة في أمر ، ثم لا يمر عليه يوم إلا وقد رآه عين المفسدة .
يقول الشاطبي في الموافقات (١/ ٣٩٤): ((إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد، لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعياً في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها. وكم من مدبّر أمرا لا يتم له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء. فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين))
ويقول شيخ الاسلام كما في مجموع الفتاوى (١١– ٣٤٥): ((وكثيراً ما يتوهم الناس، أن الشيء ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال – تعالى – في الخمر والميسر: {قل فيهما إِثْم كبير ومنافع للناسِ وإثمهما أكبر من نفعهما}.
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام، وأهل التصوف، وأهل الرأي، وأهل الملك، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعاً وحقاً وصواباً، ولم يكن كذلك.
بل الكثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم)) .
إذا تبين هذا فإن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم هو من المصالح العظيمة التي اعتبرها الشارع ، فلا يصح لأحد القول بأن المصلحة في غيره ، لأن الشرع جعل المصلحة فيه ، ولأن عدم الأخذ به يفضي إلى الاختلاف والتنازع ، فمن قائل : إن الخروج ترجح مصلحته على مفسدته .
ومن قائل: بالعكس .
ويفضي كذلك إلى فتح أبواب الشر على مصراعيها ، فيأتي من يجوِّز الخمر لما فيها من منافع ، ويأتي من يجوِّز الربا لما فيه من منافع ، وهكذا في سلسلة لا تنتهي .
٢- أن الشريعة لما علقت الأحكام بالمصالح والمفاسد تحليلا وتحريما ، إنما جعلت ذلك معلقا بالغالب والأكثر ، ولا عبرة بما شذ وندر.
فعلقت جواز الفطر بالسفر لوجود المشقة في الغالب ، فلا ينتقض الحكم عند عدم وجود المشقة ، لأن هذا نادر .
وكذلك حد الزنى شُرِع حفظا للأنساب ، ومع ذلك علق الحد بمجرد الايلاج وإن لم يحصل إنزال ، لأن العادة الغالبة أن مع الايلاج الإنزال . انظر الموافقات للشاطبي ( ٢- ١٦) 0
فعليه لو قُدِّر أننا رأينا مصلحة في خروج على حاكم مسلم ، أو رأينا مصلحة في المظاهرات فإنه لا يجوز تعليق الحكم بذلك لانه نادر ، والغالب أن ما يترتب على الخروج والمظاهرات أضعاف أضعاف ما يكون من المصالح .
ولهذا -والله أعلم- قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم : (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان )) .
فتأمل قوله :((فاضربوه بالسيف كائنا من كان)) يعني : حتى لو كان أعبد الناس، وحتى لو كان أفضل الناس ،بل وحتى لو كان معه أكثر الشعب .
وهذا عصمة من النبي صلى الله عليه وسلم للعقول والأفهام من التقدير الخاطئ ، ومن الاغترار بما لا يصلح الاغترار به من صلاح رجل أو كثرة أتباع ونحوهما .
٣- أن كثيرا مما يذكره المخالفون من مسوغات الخروج قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه ، ولم يربط حكم السمع والطاعة به ، فمن ذلك :
قولهم : (إنهم يأخذون الأموال) ، (يمنعونا حقوقنا) ، (يتنعمون بالقصور والشعوب في أشد ما يكون من الفقر) ، (يفعلون المعاصي ويجاهرون بها) ، (إلى متى ونحن نصبر)… الخ .
كل ما تقدم قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم :
ففي الأثرة قال كما في الصحيحين : (ستكون أثرة) .
وفي منع الحقوق قال الصحابة رضي الله عنهم كما في صحيح مسلم : (يانبي الله: أرأيت إن قامت علينا أمراء يسالونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟)
وفي فعلهم للمعاصي قال: (ستكون أثرة وأمور تنكرونها) .
بل وصفهم بوصف دال على شدة خبثهم، وعظيم فسقهم، فقال كما في صحيح مسلم: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
أقول : ومع ما تقدم لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج :
فقال مرة: ((اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )) رواه مسلم .
وقال : ((تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم )) .
وأمر بالصبر وإن طال ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
وأمرنا بقتل من نازع الخليفة الأول في ملكه فقال : ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) .
وتوعد من خالف في ذلك ولو بشيء يسير ، فقال : (( من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية )) متفق عليه .
وبعدُ فإني أعيذك أخي الكريم أن تجد في نفسك حرجا من هذه الأحاديث ؛ فإنها أحاديث صدق جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وردُّها رد عليه صلى الله عليه وسلم . وأياك وسماع من يقول : نحن لا نردها ولكن نتأولها ، فإن هذه الحجة لا تصح ، وكل من رد شيئا من أحكام الكتاب والسنة فقد دخل عليه الشيطان من هذا الباب .
فالمبتدعة قاطبة من أهل الاسلام على اختلاف بدعهم سواء أكانت بدعا في باب الاسماء والصفات ، أو في باب القدر ، أو في باب الصحابة ، أو غيرها ، كل هؤلاء يقولون: نحن لا نرد الاحاديث لكن نتأولها .
وسل نفسك سؤالا : لو قدّرتُ أني جلست بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر لي هذه الأحاديث، وأمرني بالصبر وقال: (إلا أن ترى كفرا بواحا) .
ثم بعد ما قمتُ : رأيتُ ظلم الولاة واستئثارهم بالأموال ، ومنعهم الحقوق ، فهل يحق لي أن أخالف أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وأدع قوله إلى قول غيره ؟
والله إن المحب له صدقا والمتبع لسنته حقا ليقول بملئ فيه : لا أخالفه ولو اجتمع عليّ مَن بأقطارها .
٤- أن بعض المخالفين يغلط ويرجع هذه المسألة إلى المصلحة التي يفهمها أو التي يهواها ، ويستدل على ذلك بأن العلماء إذا ذكروا وجوب السمع والطاعة وحرمة الخروج عللوا الحكم بالمصلحة أو المفسدة، كقول ابن أبي العز رحمه الله: ((وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم )) ، وكقول شيخ الاسلام رحمه الله: (فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجورٍ ، كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شرٌ منه ، وتزيل العدوان ، بما هو أعدى منه ، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم ، فيصبر عليه ، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي في مواضع كثيرةٍ )) .
أقول : وهذا الفهم غير صحيح ، وإنما مراد أهل العلم كشف العلة من الحكم ، وبيان حكمته ، ولا يعنون : أنه إذا لم توجد هذه المفاسد فيجوز الخروج ، إذ هذه المفاسد عندهم غالبة ، والحكم معلق على الغالب كما تقدم .
وهذا كقولهم : حرم الله الخمر لأنه يُذهب العقل ، لا يعنون أنه إذا لم يُذهب العقل كأن يكون قليلا أنه يصير جائزا .
وكذلك لو قالوا : لا يجوز الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها لأنه وسيلة إلى قطع الأرحام ، ليس معناه: أنه يجوز إذا رضيت المرأة وعمتها ، وتيقنا أنه لن تحصل قطيعة .
ويؤكد كلامي أن كلام أهل العلم على كثرته في هذه المسألة جار على نسق واحد فيقولون (يحرم الخروج لأنه فيه شر ، و…) ولا يقولون : (يحرم الخروج إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك )
ودونكم كتب أهل العلم هل تجدون شيئا من ذلك ؟
بل وقد نص ابن بطال على ذلك فقال كما في ” فتح الباري ” لابن حجر رحمه الله ( ١٣/ ٩): ( في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته…) .
إذن: يكون كلام أهل العلم في تعليل الخروج بوجود المفاسد كلام كاشف عن ما سيحصل في الخروج ، ولا مفهوم له ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) قوله : (يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم) ليس معناه: إذا جاءكم ولم يُرِد تفريق جماعتكم أنكم لا تقاتلونه ، فإنه لا يخرج أحد إلا وهو يظن أنه لن يفرق، وأن به سيحصل تمام الاجتماع .
٥- لو سلّمنا جدلا : أن السمع والطاعة وحرمة الخروج راجع إلى تقدير المصالح والمفاسد ، فيقال : تقدير المصلحة والمفسدة لا يرجع إلى عامة الناس بل هو خاص بأهل العلم دون غيرهم ، كما قال تعالى (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) وكما قال ((ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) .
والذي قرره أهل العلم قديما وحديثا أن الخروج مفسدته أكبر من منفعته ، وحصر كلامهم في هذا غير ممكن لكثرته وتعدده .
وكذلك الواقع شاهد على هذه الحقيقة ، قال شيخ الاسلام رحمه الله: ( ولعله لايكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ماهو أعظم من الفساد الذي أزالته )) .
وإن في ما وقع عبر التاريخ من الخروج على الولاة وما تبع ذلك من نتائج لعبرة وعظة ، والله يقول ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) .
ثم إني أختم مقالي بأمرين :
الأول : ذكر شيخ الاسلام -رحمه الله- أن الايمان الحق يستلزم التسليم المطلق لله ولرسوله، فلا يعارض خبرهما برأي ولا هوى، ولا يشترط لمتابعة كلامهما شرطا، كأن يقول: أنا أؤمن إن أذن لي أبي أو شيخي .
أو يقول: أؤمن إن ظهر لي مصلحة ما دُعيت إليه، ونحو ذلك . وذكر أن من فعل ذلك لم يكن مؤمنا بالشرع حقا ، وإنما آمن لأنه وافق هواه ورغبته ، وهذا خلاف ما أمر به جل وعلا ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )) انظردرء التعارض (١/ ١٨٨) .
الأمر الثاني : لينتبه المسلم أن يدخل في هذا الباب وغيره من أبواب الشريعة بعقله ، فإن العقول يعرض لها من الأشياء ما يصرفها عن إدراك أوضح الأشياء ، فقد يؤثر فيها العرف السائد ، وقد يؤثر فيها الهوى الكامن .
ومن جميل ما قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله قوله في كتابه (السبحة تاريخها وحكمها) : (وَلاَ تَغْتَرَّ باتخاذ بعض الأئمة الكبار لها, أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله تعالى – فإن الإِلْفَ والعادة لهما شأن كبير؛ إذ العادة مَلاَّكَة, والعوائد والأعراف تبني أصولاً, وتهدم أصولاً, والمعول على الدليل, وسلامة التعليل, وقواعد التشريع, وانظر كيف غلط أئمة كبار في أبواب التوحيد – مع جلالة قدرهم وعلو شأنهم – وما هذا إلا بحكم النشأة والأجواء المحيطة بهم, شيوخاً وتلاميذ وعامة, مع ضعف التجديد لهذا الدين, نسأل الله أن يغفر لنا ولهم, وأن يجمعنا بهم في جنته, آمين.) .
وهاك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة التي تبين مدى ضعف العقول ، وأنها إذا لم ترتبط بالشرع ضلت عن أوضح الأشياء :
-حال الجاهلية الأولى : فقد كان العرب في الجاهلية مع حدة أذهانهم وفرط ذكائهم ، يفعلون أشياء لا يمكن لعاقل قبولها .
منها طريقة النكاح عندهم : ثبت في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت : ((إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه ،فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.
ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن ،فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك.
فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم))
فانظر هذه الأنكحة كانت معروفة عندهم غير منكرة مع شدة غيرتهم وحميتهم .
– لما ذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب حديث اليهودي الذي قال : إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت . وتقولون : والكعبة . ذكر رحمه الله من فوائد الحديث: فهم الانسان إذا كان له هوى .
فهذا اليهودي لما أراد عيب المسلمين فَهِم أن هذه الألفاظ الخفية من الشرك ، مع أنه يقول : عزير ابن الله ، ولا يفهم أنه شرك .
-الملاحدة كبارهم وصغارهم لا يدخل في عقولهم أن سفينة صغيرة صنعت نفسها أو أنها وجدت صدفة ، مع أنه دخل في عقولهم أن هذا الكون الواسع بأرضه وسمائه قد وجد صدفة .
– وأرجو أن يتسع صدرك لضرب هذه الأمثلة، (وهو تبيّن تأثير سلوك منهج معين على عقل الإنسان) :
إبراهيم السكران ومحمد العريفي من أكثر من اشتهر بإنكار الاختلاط والرد على الليبراليين ، بل إن إبراهيم السكران له مقالات مفردة كثيرة ، وفيها مناقشات عقلية يعجب منها الناس ، ومع ذلك فإنهم لا يرون ما حصل في ملتقى النهضة من جمع بين رافضة ونصارى وليبراليين ،واختلاط بين النساء والرجال، والتخطيط والتدريب على إقامة الثورات ، لا يرون في هذا ما يوجب التحذير من المشرف عليه الدكتور سلمان العودة ، بل كتب العريفي تغريدة يهنئ فيها سلمان أن بلغ عدد متابعيه على صفحته في تويتر مليون متابع .
ومدح إبراهيم السكران سلمان بشيء عجيب ، فقال كما في صفحته على التويتر : (أثلجت صدري تغريدة الشيخ سلمان عن سيادة الشريعة وأنها لا تخضع للنقاش ، واحتجاجه على ذلك بآية التحكيم ، شكر الله للشيخ وجعلها في ميزان حسناته) فانظر بدل أن يمدحه بجهاد للكفار بسيف أو لسان ، أو بنشر علم صحيح يذهب ويمدحه بشيء لا يخطر على بال عجوز مسلمة غيره !!
– سئل العريفي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) فأجاب بأن المقصود الحاكم الذي يظلم شخصا واحدا، يقال للشخص: لا تخرج .
وأما الحاكم الذي يعم ظلمه الناس فلا يدخل فيه .
وقال شارحا لكلامه: يعني يكون الحاكم مضبوط (على حد تعبيره) لكن يظلم رجلا ، فيقال للرجل: لا تخرج … .
وهذا تفسير غريب لم يسبق إليه ، ولتعرف تأثير المنهج على الفهم فإن الدكتور ذكر أن الحاكم يكون (مضبوط) يعني : صالح . مع أنه في نفس الحديث –لا في غيره- وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحكام بقوله (لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس) ، فكيف يُفهم مع هذا الوصف الشنيع أن يكون الحاكم صالحا (مضبوط) !
-ومن أمثلة ذلك أن عبدالعزيز الطريفي كتب رسالة بعنوان (العلماء وقصور الرسالة) قرر فيها أن أحاديث السمع والطاعة خاصة بالعامة دون العلماء !
فتَعْجب كيف تجرأ على هذا القول ، ثم لم يذكر دليلا واحدا على ما قال ، ولم يذكر سلفا له في قوله ، ولا أدري ماذا سيجيب لو قال له الفلاسفة الضلال : كما أنك زعمت أن هذه الأحاديث خاصة بالعامة دون العلماء، وجوّزت وقوع هذا في الأحاديث ، وذكرت أن الأحاديث جاءت لأن العامة لا يصلح لهم غير ذلك ، فنحن كذلك نقول : كل الآيات والأحاديث الواردة في اليوم الآخر والتخويف به إنما جاءت لمصلحة العامة لكي لا يبغي بعضهم على بعض، وإلا فما ثم حساب ولا جنة ولا نار ، لا أدري كيف سيجيب عليهم ؟
-وهذا الدكتور طارق السويدان قاده عقله إلى أنه جوّز الاعتراض على الله ورسوله ، ورأى في ذلك حرية وتقدما ، وفي المقابل جرّم مصادرة أراء المخلوقين والتعدي عليها مهما بلغت من الشر والفساد .
وكذلك أخي القارئ لا يغلبنك منهج معين، فيؤثر على عقلك فتذهب فتطعن فيّ بأني أتكلم على دعاة وأنتقص من قدرهم ، فلو تأملت أن كلامي غاية ما فيه ذكر منكر وقع فيه بعض الناس، وما ذكرته إلا لأنه مخالف للشريعة فهو داخل في إنكار المنكر الذي أمرنا الله به ، وإلا والله لو لم يخطئ هؤلاء لكان أحب إلينا .
وإذا صدك محبة هؤلاء عن قبول كلامي فقدِّر أن المشرف على ملتقى النهضة هو المدعو جمال خاشقجي ، كيف سيكون إنكارك عليه ؟
وقدِّر أن القائل بأن أحاديث السمع والطاعة خاصة للعامة دون العلماء هو تركي الحمد ، كيف سيكون إنكارك ؟
إن من التعصب أن تعتقد نكارة قول أو فعل ، ثم يقع فيه من تحب فلا تراه منكرا .
وقد قيل للإمام أحمد :إنه يثقل عليّ أن أقول فلان كذا أو فلان كذا فقال: إذا سكتّ أنت وسكتُ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من المستقيم؟!
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ((فلابد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدع من منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وإنها خير وإنها دين ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالها، ولهذا وجب بيان من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله)). الفتاوى(٢٨-٢٣٥) .
وجملة القول : كلما كان الإنسان أقرب من الشرع كان أكمل عقلا وأصح فهما ، وكلما كان أبعد عن الشرع كان أقل عقلا وأضل فهما .
لذا قال من قال من السلف : السُّنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق .
فأياك إياك أن تغتر بعقلك ، وترد به شرع ربك ، فذلك الخسران المبين، قال تعالى لنبيه داود عليه السلام (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وكتبه : ناصر بن غازي الرحيلي
المدرس في قسم العقيدة في الجامعة الاسلامية