السلفيُّون والحُــــكَّام
د. عارف بن عوض الركابي
***السلفيُّون والحُــــكَّام***
في المقالات السابقة رأيت بعض الإخوة لا يعرف لماذا يكون موقف السلفيين رفض المظاهرات لأنها ليست من هدي الإسلام وتحريم الخروج على الحاكم ووصيتهم بالاكتفاء بالأساليب الشرعية في النصح للحاكم مع الحث على الصبر والوصية بالتوبة وتغيير ما بنا من حال والاستقامة على دين الله حكاماً ومحكومين ليغير الله ما بنا برحمته وفضله فإنه على كل شيء قدير
وذلك لأن كثيرين ارتبط عندهم أن الصلة بالحاكم والموقف منه على حسب الإفادة منه وما يوفره من خدمات .. وإن كان هذا جزءاً من واجبه تجاههم…
لمزيد من التوضيح لهؤلاء ولغيرهم أورد هذا المقال الذي نشرته سابقاً :
****ـــــــ****ــــــــــــ****ــــــــــ****
“النصوص الشرعية” هي التي توجه الدعوة السلفية في مواقفها من الحكام وقضايا الحاكمية
وليست المصالح الدنيوية أو الأغراض الشخصية أو الانفعالات العاطفية
د.عارف عوض الركابي
الدعوة السلفية دعوة تستند في (كل) قضاياها ومواقفها على نصوص الكتاب والسنة وتفهم هذه النصوص بفهم السلف الصالح رضي الله عنهم ورحمهم ، فإن كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام هما مصدرا التشريع لهذه الشريعة الكاملة الشاملة التي ختم الله بها الشرائع ، قال الله تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (تَرَكْتُ فِيكُمْ شيئين ، لَنْ تَضِلُّوا بعدهما : كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) .والسلفيون يسيرون في فهمهم للنصوص الشرعية بفهم السلف الصالح وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون وتابع التابعين رحمهم الله تعالى وهؤلاء هم أصحاب القرون (الثلاثة) المفضلة ، قال الله تعالى: (والسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (خَيْرُ الناسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) .
فاتباع سبيل الصحابة والتابعين وتابعيهم والسير على طريقهم والاهتداء بهديهم وفهم الكتاب والسنة بفهمهم هو من الواجبات المتحتمات ، وإن الشرع المطهر قد أكد على ذلك ، بل إن الله تبارك وتعالى قد توعد من أعرض عن دربهم ، وسار على غير طريقهم توعدهم بالوعيد العظيم ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
فهم الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا مقاصد التشريع وصحبوا النبي عليه الصلاة والسلام وجاهدوا معه ، وحضروا معه فرض الفرائض وسن التشريعات ، فلا غرو أن يجعل الشرع لسبيلهم تلك المنزلة والمكانة العظيمة .
وتلك القرون الثلاثة هي قرون العزة والسؤدد والتمكين وانتشار الإسلام وظهور تشريعاته ، وهي عصور التمسك بالشريعة والبعد عن البدع والمخترعات ومحدثات الأمور.
والمقصود بهذه المقدمة التأكيد على أن الدعوة السلفية تسير على وفق منهج السلف الصالح في كل القضايا والمواقف ، في العسر واليسر في الرخاء والشدة ، مع القريب والبعيد ، مع الحاكم والمحكوم وغيرهم .
ومن ذلك : “موقف الدعوة السلفية من الحاكم وقضايا الحكم” ، فإن الدعوة السلفية تسترشد في موقفها من الحكومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وتفهم النصوص الكثيرة الواردة في ذلك بفهم السلف الصالح ، والذي ينظر إلى الموقف السلفي في هذه القضية المهمة من القرن الأول وحتى يومنا هذا وعلى مختلف البلدان يجد ثباتاً ووضوحاً لا يخفى على كل ذي عينين .
وليس المقصود بهذا المقال سرد عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب ؛ فقد اعتنى أهل العلم في القديم والحديث بهذا الباب وبينوا الأصول والقواعد والكليات في ذلك بتفصيل لا يبقى معه إيهام أو غموض ولا يكون معه مجال لاضطراب أو تناقض !! والكتب المفردة في هذا الجانب كثيرة جداً ولله الحمد.
وإنما المقصود بكتابة هذا المقال التأكيد ببيان أن الدعوة السلفية تسترشد بالنصوص الشرعية في مواقفها من الحاكم ، وليس للمصالح والمقايضات الدنيوية أو الأغراض الشخصية أو الانفعالات العاطفية أو المكايدات السياسية أو غيرها نصيب في توجيه هذه المواقف.
فقد عشنا ورأينا من :
ـ يقايضون الحكومة في موقفهم منها حتى تلبي له طلباتهم ، فيعلنون سياسة تعطينا لنسمع ونطيع!!
ـ وآخرون يخرجون عليها ويعلنون شق العصا بناء على عدم تحقيق بعض رغباتهم!!
ـ وآخرون يعلنون الولاء أياماً ثم ينقضون ذلك الولاء بتحالفات مع آخرين!! ويتغيرون ويتلونون في مواقفهم بناء على المصالح الشخصية!!
ـ وآخرون يرون أن الصلة مع الحاكم ينبغي أن تكون على التحالفات !! وليست السمع والطاعة !!
وآخر يقرر في أحد كتبه أن الشعب له أن يخرج في المظاهرات على الحكومة وله حق المعارضة ومحاسبة الحاكم بل وقلعه!! ثم يناقض هذا التقعيد الذي أصّل له في رسالة دكتوراه !! ببعض المواقف والنشرات الأخرى!
وغيرهم وغيرهم ،،،
وأما السلفيون فإن موقفهم من الحاكم في هذه القضية وكل القضايا هو: “التوجيهات الشرعية وما كان عليه السلف الصالح” وينطلقون من ركن شديد وأصول ثابتة وقواعد راسخة وهم في ذلك على بينة من أمرهم ، ولا يضرالمنهج السلفي بعضُ المواقف الشخصية من بعض من ينتسب إليه ، فقد رأينا من اتجه لمقايضة الحاكم والدخول في تحالفات وأشهر سياسة كم تعطينا ؟ حتى نعلمك : كم نعطيك؟! ولا يخفى أن هذا الصنيع هو من التأثر الواضح بالأحزاب السياسية !! وإلا فإن الموقف السلفي المعروف لصغار طلاب العلم قبل كبارهم :
أن العلاقة مع الحاكم هي علاقة محكومين بحاكم ، فللحاكم حقوق وللمحكومين (الرعية) حقوق ، وليست القضية ترجع لمبدأ ندية أو خاضع لأي نوع من المساومات !! وإن السلفيين على مر العصور يقررون حقوق الحاكم وواجباته ، وقد سردت عشرة منها في حلقة سابقة بهذه الصحيفة ، كما إنهم يقررون حقوق الرعية التي يجب على الحاكم الوفاء بها ، ولم يكن بين تلك التقريرات سياسة المقايضة!! التي سار عليها البعض ، وقد وجدت معارضات كبيرة وواضحة من الأكثر منهم قرباً !! فضلاً عن غيرهم ، حتى باتت وكأنها مواقف شخصية لمعينين !!
ولا بد من ضرب بعض الأمثلة ليتضح بجلاء أكثر أن المواقف السلفية تستند على قواعد وأصول راسخة وثابتة وليست للمصالح الدنيوية أو المكايدات السياسية أو الانفعالات العاطفية تأثير في ذلك ، وأنّى يكون لذلك أو غيره تأثير والأمر دين وعبادة ويترتب على مخالفة الشرع فيه وعيد شديد ، والعياذ بالله تعالى .
أولاً : ومن ذلك فإني أعيد سرد أبرز حقوق الحاكم المسلم على رعيته وقد ذكرها ابن جماعة الكناني رحمه الله وأفاد بنقلها عنه الشيخ الدكتور عبد السلام البرجس رحمه الله :
فالحق الأول : بذل الطاعة له ظاهراً وباطناً في كل ما يأمر به أو ينهي عنه إلا أن يكون معصية ، قال الله تعالي : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) .
وأولو الأمر هم : الإمام ونوابه – عند الأكثرين – وقيل : هم العلماء
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب – أو كره – ما لم يؤمر بمعصية…. ) .
فقد أوجب الله – تعالي – ورسوله : طاعة أولي الأمر ولم يستثن منه سوي المعصية فبقي ما عداه على الامتثال.
قال العلامة المطهر في شرح هذا الحديث : (يعني :سَمْعُ كلام الحاكم وطاعته واجب على كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية فإن أمره بها فلا تجوز طاعته لكن لا يجوز له محاربة الإمام ) .
وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -، قال : دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ، فكان فيما أخد علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال : ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ) .
الحق الثاني : بذل النصيحة له. قال رسول الله: ( الدين النصيحة ) ، قالوا : لمن ؟ قال : ( لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمته المسلمين، وعامتهم ) .
الحق الثالث : القيام بنصرتهم باطناً وظاهراً ببذل المجهود في ذلك لما فيه نصر المسلمين وإقامة حرمة الدين وكف أيدي المعتدين.
الحق الرابع : أن يعرف له حقه وما يجب من تعظيم قدره، فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله – تعالي – له من الإعظام ، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم ، ويلبون دعوتهم مع زهدهم وورعهم ، وعدم الطمع فيما لديهم .
الحق الخامس : إيقاظه عند غفلته ،وإرشاده عند هفوته، شفقة عليه، وحفظاً لدينه وعرضه، وصيانة لما جعله الله إليه من الخطأ فيه .
الحق السادس : تحذيره من عدو يقصده بسوء ، وحاسد يرومه بأذى أو خارجي (يعني من الخوارج ) يخاف عليه منه ، ومن كل شيء يخاف عليه منه – على اختلاف أنواع ذلك وأجناسه – فإن ذلك من آكد حقوقه وأوجبها .
الحق السابع : إعلامه بسيرة عماله الذين هو مطالب بهم ومشغول الذمة بسببهم ، لينظر لنفسه في خلاص ذمته، وللأمة في مصالح ملكه ورعيته.
الحق الثامن : إعانته على ما تحمله من أعباء الأمة ومساعدته على ذلك بقدر المَكْنَة، قال الله – تعالي -: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى ) ، وأحق من أُعين على ذلك ولاة الأمور.
الحق التاسع: رد القلوب النافرة عنه إليه ، وجمع محبة الناس عليه لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة .
الحق العاشر: الذب عنه بالقول والفعل وبالمال والنفس والأهل ، في الظاهر والباطن والسر والعلانية .
وإذا وفت الرعية بهذه الحقوق العشرة الواجبة ، وأحسنت القيام بمجامعها، والمراعاة لمواقعها، صفت القلوب وأخلصت واجتمعت الكلمة وانتصرت بإذن الله تعالى .
ومن المقرر عند السلفيين أن الشرع قد أوجب الصبر على جور وخطأ الحاكم لأن الخروج عليه تترتب عليه مفاسد أعظم ، ومن تأمل التاريخ في القديم والحديث يجد أن أكثر مصائب المسلمين إنما هي من جراء التفريط فيما قرره الشرع في هذا الباب الخطير . قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية : (وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا لأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور…) .
وهذه إشارات وإلا فإن الأمر بحاجة إلى بسط ومزيد من النقولات والتوضيح إلا أن المقام لا يتيح أكثر من ذلك .
والأمثلة التي يتبين من خلال سردها رسوخ وثبات المنهج السلفي في هذه القضية المهمة مقارنة مع مواقف الكثيرين كثيرة جداً ، وأسأل الله تعالى أن ينفع بما ذكرت ونقلت وأحيل الأخ القارئ إلى قراءة الكتب التي ألفت في هذا الباب مثل كتاب الإبانة لا بن بطة وشرح أصول اهل السنة والجماعة للالكائي وأصول السنة للإمام أحمد والشريعة للآجري والسنة لابن أبي عاصم وغيرها والاطلاع على ما كتبه الشيخ الدكتور عبد السلام البرجس رحمه الله في تهذيب وتلخيص كلام السلف في كتبه ورسائله القيمة التي ألفها في هذا الباب.
*وأسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق وأن يهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأن يؤلف بين قلوبهم وأن يوفق حكامهم للقيام بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليهم وأن يجعلهم رحمة لرعاياهم وأن يهيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه.
إن ربي سميع قريب مجيب.