الفرقة الناجية
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أما بعد:
فإن اعتقاد القلب هو الأصل والجوارح تبع للقلب، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح وإذا فسد القلب فسدت الجوارح، أخرج البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وروى معمر بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: القلب هو الملك والأعضاء جنوده.
فالظاهر والباطن متلازمان صلاحًا وفسادًا، إلا أن القلب هو الأصل والجوارح تبع للقلب، لأجل هذا لما أنزل الله الرسالة على محمد بن عبد الله ﷺ جلس في مكة عشر سنوات يُعالج قلوبهم فلم تُفرض عليهم صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، وإنما فُرض التوحيد الذي أصله صلاة القلب وإفراد الله بما يستحق سبحانه وتعالى.
ولأجل هذا كان التوحيد عظيمًا، ومن فرَّط في التوحيد وترك الاعتقاد الصحيح الذي عليه الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة فقد زلَّت به الأقدام وضلت فيه الأفهام.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «وإن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة – يعني: الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة».
أيها المسلمون، إن هذه الفرِق فرقٌ مسلمة، وكلها في النار أي مستحقة للنار، إلا فرقة واحدة، وجماعة واحدة، وهي المتمسكة بالاعتقاد الصحيح الذي دلَّ عليه كتاب الله وسنة النبي ﷺ بفهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وعن غيره، أن النبي ﷺ قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».
وإليكم مثلين من أمثلة معتقد أهل السنة التي يجب أن تنعقد عليها القلوب وأن تصلح، فإن القلب إذا صلح صلحت جوارحه:
أما المثل الأول: علو الله سبحانه، قد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل على أن الله بذاته فوق مخلوقاته، فلا يصح لأحد أن يقول: إن الله في كل مكان، بل هو سبحان فوق مخلوقاته، قال سبحانه: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور﴾ وقال: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ أي علا وارتفع سبحانه، وثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- أنه أراد أن يعتق جاريةً له فأتى بها إلى النبي ﷺ فسأل النبيُّ ﷺ هذه الجارية: «أين الله؟» قالت: في السماء. قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله ﷺ. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة».
وقوله: ﴿في السماء﴾ أي فوق السماء، كما قال سبحانه: ﴿قل سيروا في الأرض﴾ أي فوق الأرض، وهذا اعتقاد دلَّت عليه الأدلة، وفُطرت عليه الفِطر، وهدت إليه العقول، ومع ذلك –للأسف- أكثر جامعات العالم الإسلامي تربي طلابها ودارسيها على أن الله في كل مكان، أو تربيهم على تلك العبارة السمجة والاعتقاد الضال أنه سبحانه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا منفصلًا عنه ولا متصلًا به …إلى غير ذلك من علم الكلام المذموم، فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واعتقدوا في ربكم ما أخبركم به في كتابه، وأخبركم به رسوله ﷺ.
أما المثل الثاني: فقد أخبرنا الله بأن له صفات وأسماءً، قال تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ وثبت في الصحيحين عن حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ ، فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال ﷺ: «أخبروه أن الله يحبه».
فإذن دلَّ الكتاب والسنة على أن لله أسماءً وصفات، إلا أن من أسمائه وصفاته ما تكون مشتركة في اللفظ بين الخالق والمخلوق، لكن شتان بين أن تكون صفةً لله وأن تكون صفةً للمخلوق، كقوله تعالى: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ وللمخلوق يدان لكن لا يلزم من ذلك التشبيه بل كلٌ يده بحسب حاله، ولله يدان تليق به سبحانه وتعالى.
فيجب أن نعتقد ما ذكر الله من صفاته وأنه سبحانه يسمع ويُبصر كما قال سبحانه: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ وأن له يدين كما قال سبحانه: ﴿ما منعك ألا تسجد لما خلقت بيديّ﴾ وأن له وجهًا كما قال سبحانه: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ إلى غير ذلك من الأدلة، لكن لا يمكن أن يدور في خيال مسلم سليم الفطرة أن يدي الله كيدي المخلوقين، بل كما أن ذاته مُغايرة لذات المخلوقين وله المثل الأعلى فكذلك يُعتقد في صفاته من اليدين والوجه والسمع والبصر، إلى غير ذلك من الصفات الكثيرة التي دل عليها كتاب الله وسنة النبي ﷺ.
وقد اختصر الله هذا الاعتقاد في آية الشورى لما قال سبحانه: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ فجمعت هذه الآية بين أمرين: الأمر الأول: نفي التشبيه، والأمر الثاني: إثبات الصفات لله على الوجه الذي يليق به.
اللهم يا من لا إله إلا أنت، يا رحمن يا رحيم اجعلنا من الفرقة الناجية يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من تلك الفرق الثنتين والسبعين التي ضلت فأصبحت هالكة يا رب العالمين، اللهم اهدنا وسددنا وعلى اعتقاد أهل السنة ثبتنا وأحينا يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإنه لم يتقرب أحد إلى الله بأعظم من أن يتقرب إليه باعتقاد صحيح، وهو الاعتقاد الذي كان عليه النبي ﷺ وصحابته الكرام والسلف التابعون لهم بإحسان، قال سبحانه: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار﴾.
إن من أراد أن يكون من التابعين لهم بإحسان فليفهم كتاب الله وسنة النبي ﷺ على فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان ويدع المذاهب البدعية كالمذهب المعتزلي أو الأشعري أو الماتريدي أو غيره من الاعتقادات البدعية في ربنا سبحانه وتعالى، وليعتقد في الله كما أخبر الله في كتابه ونبيه محمد ﷺ في سنته، وكما فهم ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
إخواني، إنه من الخطأ الكبير أن يُظن أننا لسنا محاسبين على أعمالنا وأفعالنا، حتى إن بعض الناس يعمل المعاصي والذنوب فإذا أُنكر عليه قال: المهم هو القلب. فيُقال: نعم المهم هو القلب والقلب هو الملك والقلب هو الأصل، لكن لا يمكن أن يكون القلب صالحًا إلا وأن يظهر أثر ذلك على الجوارح، فمن لم تصلح جوارحه فهو دليل على عدم صلاح قلبه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ».
الله اهدنا فيمن هديت وتولنا فيمن توليت .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .
اللهم أحينا على التوحيد والسنة وأمتنا على ذلك .