المجموعة (934)
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
يقول السائل: شابٌ عمل ذنوبًا كثيرة من قبلُ والآن يريد أن يقضي ما بقي من عمره مجتنبًا المعاصي، فلا يقع في ذنب حتى يلقى الله سبحانه، فما هو السبيل إلى ذلك؟
الجواب:
إن هذا السؤال عظيم والجواب عليه مهم، ومثله مما يطول الجواب عليه لأهميته، وقد ألَّف ابن القيم كتابًا نفيسًا في ذلك سماه: (الداء والدواء) ويُسمى أيضًا: (الجواب الكافي)، وقد تكلم ابن القيم على أشياء مفيدة للغاية فيما سأل عنه السائل.
لكن أذكر بعض الأسباب المعينة على الثبات والاستقامة والزيادة على الطاعة، أسأل الله أن يهدينا جميعًا وأن يُرشدنا وأن يُوفقنا وأن يُحسن لنا العمل والختام إنه أرحم الراحمين.
السبب الأول: الدعاء، فإن من أعظم الأسباب الدعاء، فهو مفتاح كل خير؛ لأن الله يقول: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186] فلنفزع إلى الله بالدعاء، فهو سبب عظيم لاستجلاب الخير ودفع الشر، وهو أسهل طريق وأقوى طريق، وهو مفتاح كل خير، لأنه سؤال من بيده كل شيء سبحانه وتعالى.
السبب الثاني: الاستعانة بالله، كما قال سبحانه: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 4] وثبت عند الترمذي وغيره من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا استعنت فاستعن بالله»، فلابد أن نستعين بالله، فمن أعانه الله حصل له خير عظيم وكُفي عن كل أحد سوى الله سبحانه وتعالى.
السبب الثالث: مجاهدة النفس على ترك المعاصي وعلى فعل الخير، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69] فلنجاهد أنفسنا، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴾ [محمد: 17] فإذن لابد من مجاهدة النفس فإن النفس أمَّارة بالسوء، فلذا تحتاج إلى مجاهدة.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ومن يتصبَّر يُصبِّره الله»، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200] وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] فإذن لابد من المجاهدة وأطر النفس على الحق أطرًا.
السبب الرابع: ترك أسباب الذنوب والطرق المؤدية إلى المعاصي، فإن هناك أسبابًا كثيرة، وتختلف من شخص إلى آخر، بعض الناس من أعظم الأسباب إذا قلَّب الجوالات وبعض الناس من أعظم الأسباب تساهله في الاختلاط مع النساء في العمل، إلى غير ذلك، وكل واحد أدرى بنفسه، والله يقول: ﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14-15].
فلابد من مجاهدة النفس على ترك الوسائل والأسباب المؤدية للذنوب، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208] فإذن الحرص على ترك الأسباب، فإن الرجوع عن الذنب قبل فعله أسهل من الرجوع عنه بعد فعله وأثناء فعله.
السبب الخامس: فعل الطاعات، فإن الإكثار من الحسنات فيه فوائد منها: أنه يُكفر السيئات، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114] ومنها أن الحسنة تدعو أختها، كما قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5-7] قال عروة بن الزبير وغيره من السلف: الحسنة تدعو أختها.
إذن لنُكثر من فعل الحسنات والطاعات، ولا يحقرنَّ أحدٌ منا عملًا يعمله ولا حسنة يفعلها، قال ابن حجر في كتابه (فتح الباري): فإن أحدنا لا يدري أي حسنة تكون سبب دخوله الجنة.
السبب السادس: محاسبة النفس، فإن النفس تحتاج إلى محاسبة ومجاهدة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18] فلابد من مجاهدة النفس، وقد كان السلف يحاسبون أنفسهم.
وقد تكلم على محاسبة النفس ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين)، وابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في (مجموع الفتاوى)، وأنه ينبغي أن يكون للعبد ساعة -أي وقت- في اليوم يحاسب نفسه فيها حتى يتدارك وينتبه لأخطائه ويفيق من الغفلة، فإن من أسباب معصية الله الغفلة، قال عز وجل: ﴿ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205] وقال: ﴿ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28] فالمحاسبة سبب عظيم لترك الغفلة.
السبب السابع: مجالسة الصالحين وأهل الخير، فإن الإنسان يتأثَّر بأصحابه، وكما قيل: الصاحب ساحب. وقد قال سبحانه للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الكهف: 28] وبعض الناس يظن أن الكلام على جلساء السوء وجلساء الخير أن هذا خاص بالمراهقين والشباب الصغار وبأمثالهم، وهذ خطأ، بل هو لكل واحد منا حتى الممات، فلابد من مجالسة أهل الخير، فإن الإنسان قوي بإخوانه ضعيف بنفسه.
وقال سبحانه: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] فإذن لابد من مجالسة أهل الخير حتى يُشجعوك على الخير ويُساعدوك، فالإنسان ضعيف بنفسه.
السبب الثامن: تذكُّر الموت، فإن تذكر الموت مفيد في احتقار الدنيا وعدم التعلق بها، وعدم التنافس عليها، فلابد من تذكر الموت، فإن فيه خيرًا عظيمًا وفيه تزهيدًا في هذه الدنيا، وتأملوا قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60].
فإذن لابد من تذكر الموت، قال سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10] وقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
ومما يفيد في تذكر الموت: زيارة المقابر، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فزوروا القبور فإنها تُذكر الموت».
والسبب الأخير: ليعلم كل أحد منا أنه ليس معصومًا من الذنوب والمعاصي، كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم».
فإذن لابد أن يُخطئ وأن يُقصر الإنسان بما أنه سائر إلى الله، فإن الشيطان يُجلب عليه بخيله ورجله ونفسه الأمارة بالسوء تدعوه إلى السوء، والدنيا وفتنتها تصده عن الخير وتكون سببًا للغفلة، وأحيانًا الأولاد والزوجة، إلى غير ذلك، لذا لابد أن نعلم أن كل واحد منا لابد أن يعصي الله، لكن الواجب أن نجتنب المعاصي والطرق المؤدية إلى المعاصي، وأن نقللها ثم إذا وقعنا في المعصية أن نفزع إلى التوبة، ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
وألا نجعل وقوعنا في المعاصي سببًا لليأس والقنوط، فإن الشيطان يأتي للمتعبدين وأهل الخير والمريدين للتوبة من هذا الباب، فيؤيسهم حتى ييأسوا من روح الله، قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
أسأل الله أن يثبتنا وأن يهدينا وأن يصلحنا وأن يزيدنا وأن يحسن لنا الخاتمة، وأن يجمعنا ووالدينا وأحبابنا في الفردوس الأعلى، وجزاكم الله خيرًا.