بين ذنوبنا والرجوع إلى الله في دقائق
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 21-22].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
إننا خُلقنا لعبادة الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وإن العابد لله حقًا والسائر على ما يريد الله صدقًا لابد أن يسير بطريق جامع بين أمرين:
الأمر الأول: الخوف من الله.
الأمر الثاني: رجاء مغفرة الله وثوابه، كما قال سبحانه عن الأنبياء: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
وإنه لما قلَّ الخوف في قلوبنا كثُرت ذنوبنا ومعاصينا ومُخالفتنا لأمر ربنا سبحانه والذي هو سببٌ لكل بلاء في الدنيا والآخرة، وسببٌ لكل تأخُّر في حق الفرد والمجتمع والدول.
قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 41]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: 155]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: 49].
وقال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾ [نوح: 25]، أُغرقوا في الدنيا وأُدخلوا نارًا في الآخرة.
وإن صلاح الدول والمجتمعات بصلاح الفرد، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع وصلحت الدول، لذا لنتقي الله ونُراجع أنفسنا فإنها أمَّارة بالسوء.
وإن هناك سُبلًا كثيرة تُعين على أطر النفس على الحق أطرًا، وعلى ترك المُغضبة لله :
الأمر الأول:
تذكُّر الموت، الذي هو مصير كل واحد منا، والله وتالله وبالله، إن هادم اللذات ومُفرِّق الجماعات كما هجم على غيرنا فإنه سيهجم علينا لا محالة، ولا ندري متى يهجم علينا هادم اللذات ومُفرق الجماعات الموت.
قال الله عز وجل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، تأمَّلوا قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، يقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: المؤمن والكافر يُقرَّان بالموت إلا أنه غرَّ الكافر طول الأمل، كما قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ [النساء: 120].
وما أكثر ما غرَّنا طول الأمل، والتسويف، وكأن للموت وقتًا محددًا، وكأنا ما رأينا هادم اللذات كيف خطف غيرنا بلا ميعاد وبلا مقدمات، وبلا أسباب، وبلا وقت، إما في ليل أو نهار أو ضحى، أو في سيارة أو على فراش، أو بين أهله أو في حال خشية، أو حال غفلة.
لذا لنتقي الله ولنعتبر بغيرنا، قال سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقين: 10] ليُراجع كل واحد منا نفسه، وليضع الموت نصب عينيه، ليعلم حقيقة الحال.
الأمر الثاني:
تذكر الآخرة، والله كما أننا عشنا هذه الحياة فإننا غدًا سنعيش الآخرة، سنقف يوم القيامة حفاةً عراة غُرلًا، والله إنها حقيقة لابد منها، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1-2].
نعم سنقف يوم القيامة ونتذكر ما فعلنا من خطايا وآثام، من نظر حرام، وقول حرام، وفعل حرام، وأكل حرام، إلى غير ذلك من المحرمات، ويوم ذاك، سنعلم حقيقة الحال وكم فرَّطنا وسوَّفنا حتى كنا في حال خسارة وندامة.
الأمر الثالث:
ترك الأسباب الموصلة إلى المعصية، إن للمعاصي أسبابًا وذرائع، وإن للشيطان خطوات تقرب من المعصية، ويُزينها ويُجملها، والنفس الأمارة بالسوء تدعو إليها، لذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور: 21]، تأمل إن الشيطان عدو مبين لنا، فلنتق الله .
وإن من خطوات الشيطان التي نتساهل فيها تقليب القنوات أو الجوالات أو القرب من مواطن الفتن، كالقرب من النساء، فقد يُضاحكها الرجل في عمل أو غير ذلك، فيقرب ويقرب، ويقرب، ويتفاجأ فإذا هو قد وقع في الفخ، فخدعه الشيطان ونفسه الأمَّارة بالسوء، ويوم ذاك وفي تلك الحال قد كُتب عليه ما كُتب من السوء، فلنتق الله ، ولنحذر الخطوات والأسباب المُوصلة إلى المعصية.
والله إن الرجوع عن أسباب المعصية أهون بكثير من الرجوع عن المعصية بعد التلبُّس بها، لذا لنجتهد على ترك خطوات الشيطان، لنجتهد على ترك كل سبيل يُوصل إلى معصية الله.
الأمر الرابع:
تذكر مراقبة الله، وتذكر نعم الله، ومن ذلك تذكر أن هذه العين التي يبصر بها هي من نعم الله، وهذه اليد التي نحركها ووبها نأخذ ونعطي هي من نعم الله، وهذه القدم التي عليها نمشي هي من نعم الله، أفلا نتقي الله الذي يرانا ويُراقبنا أن نعصيه بنعمه؟
تالله لو أراد الله سَلَبها وصرنا مشلولين لا يستطيع أحدنا أن يُحرك أطرافه الأربعة، للذا لنتذكر أن هذه الأدوات والجوارح من نعمه، فلنتق الله ولنراقبه، فإننا إذا شعرنا أن مولانا يرانا ولو كنا في مكان لا يرانا فيه أحد فإنه يرانا، وإن الملائكة تكتب، وإن الموت قد يهجم في هذه اللحظة، فنموت على خاتمة سوء، أسأل الله أن يُعاملنا برحمته.
إخواني، إن من أعظم الأمن من مكر الله أن نستمر على معصية الله ونرجو ثواب الله، روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن بعض السلف كإسماعيل بن رافع -رحمه الله تعالى- قال: من الأمن من مكر الله إقامة العبد على معصية الله وهو يرجو مغفرة الله.
هذه والله حالنا، نُقيم على المعاصي والذنوب وفي حال تلبُّس النفس بها نرجو مغفرة الله، هذا من الأمن من مكر الله، إن الأمر عظيم، وإن الخطب جسيم، وإن الأمر جد لا هزل.
الأمر الخامس:
الاجتهاد على طاعة الله، فإن الطاعة والحسنة تدعو أختها، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5-7].
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد: 17]، اعلم أن الحسنة تدعو أختها، واعلم أن الطاعة تُساعد على الطاعة الأخرى، والعكس بالعكس.
فإن السيئة تدعو أختها، كما قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، وقال سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 8-10].
الأمر السادس:
مصاحبة الصالحين الذين يُعينون على ذكر الله وطاعته، يقول الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، ويقول سبحانه: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
إن في مصاحبة الصالحين خيرًا عظيمًا، فلنجاهد أنفسنا على مصاحبة الصالحين، إياك أن تظن أن الصالحين في حسرة أو نكد أو تعس، كلا والله، إنهم في سلوان وفي راحة بال وأُنس لا يعلمه إلا الله الذي لا إله إلا هو.
ألم يقل الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، مفهوم المخالفة: أن من كان على طاعة الله فإنه في أُنس وسعادة لا يعلمها إلا الله.
يظن بعضهم أنه إذا ترك شهواته وترك أصحابه الذين يؤزُّونه على المعصية أزًّا فإنه سيكون في حسرة وندامة وكآبة، كلا والله، كيف تكون كذلك وأنت مُقبل على طاعة الله؟ والسعادة والحسرة بيد الله الذي لا إله إلا هو.
أتظن أن الله يُعطي السعادة من يعصيه ويحرمها من يُطيعه؟ كلا والله.
ثم الواقع خير شاهد، تكلم كثيرون ممن ابتُلوا بهذه الذنوب والمعاصي، وأداموا عليها، تكلموا عن واقعهم الماضي وعن واقعهم بعد ذلك لما تابوا وأنابوا إلى الله.
اللهم يا من لا إله إلا أنت، اللهم يا رحمن يا رحيم، اللهم يا من لم يهتد أحد إلا بفضلك، اللهم فاهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم خذ بنواصينا للبر والتقوى، وأصلحنا وأقمنا على طاعتك، ونعوذ بك يا ربنا أن تكلنا إلى نفوسنا الأمارة بالسوء، ونسألك أن تُعيذنا من الشيطان الرجيم، أسأل الله أن يُعاملنا برحمته.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالسبب الأخير:
التوبة إلى الله، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، أخرج الإمام مسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يفرح بعبده إذا تاب».
فلنتب إلى الله إخوة الإيمان، وإيانا واليأس والقنوط من رحمة الله، إن لنا ربًا كريمًا رحمان ، أرحم بنا من أمهاتنا.
أخرج الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بعد غزوة ومعركة، فإذا بامرأة قد فقدت ولدها الرضيع، فتبحث عن ولدها الرضيع، تبحث وتُقلب الجثث وتبحث شرقًا وغربًا.
فإذا بها وجدت ولدها حيًا، فرفعت ولدها وأخرجت ثديها ثم رضعت ولدها وهي في حالة فرح شديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو وصحابته ينظرون إلى هذه المرأة التي تخشى ألا تجد ولدها حيًا، ثم وجدته حيًا فلما رفعته وأخرجت ثديها تُرضع ولدها قال -صلى الله عليه وسلم-: «أتظنون أن هذه المرأة ترمي بولدها في النار؟»، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «لله أرحم بنا من هذه المرأة بولدها».
لا إله إلا الله! فلنتب إلى الله إخوة الإيمان، وتأكد أنك إذا تبت إلى الله، وجاهدت نفسك فلن يُضيعك الله، قال الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
فلنجاهد أنفسنا على التوبة، من الآن وإياك والتسويف فإن سوف وأخواتها سبب للرجوع إلى المعاصي وترك الطاعة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فلنرجع إلى الله ولنتب إلى الله ولنعلم أن رحمة الله عظيمة، ولنعلم أننا إذا تبنا إلى الله فإن السيئات تُبدل حسنات، وهو أرحم بنا سبحانه وتعالى.
اللهم يا من لا إله إلا أنت أعذنا من الذنوب والمعاصي، اللهم أعذنا من فتنة الدنيا، اللهم أعذنا من فتنة المحيا والممات، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك وأن تجعل أعمارنا حجة لنا لا علينا، الله أعز الإسلام والمسلمين وأهلك الكافرين وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.