تعليق على بيان فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك بشأن التصويت للدستور المصري

د. عبدالعزيز بن محمد السعيد

تعليق على بيان فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك بشأن التصويت للدستور المصري

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد

كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض

29/1/1434هـ

الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجه ربنا وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في ربوبيَّته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

أما بعد: فقد نُشر بيانٌ لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، بعنوان: (حكم التصويت للدستور المصري) بتاريخ 28/1/1434هـ وقد شقَّ عليَّ ما كتبه فضيلته إشفاقًا عليه، وعلى الأمة، سائلاً الله تعالى أن يغفر لي وله، ويثبِّتنا على الإسلام والسنة، ويأخذ بأيدينا جميعًا إلى الحقِّ، ويجمع القلوب على طاعته سبحانه وتعالى.

ومما جاء في البيان المذكور قول فضيلته: (ما في الدستور من المواد الكفرية التي لا يختلف إخواننا في بطلانها وتحريم وضعها اختيارًا)، ثم ذكر فضيلته أن الذي ظهر له هو أن التصويت على هذا الدستور جائز أو واجب؛ معلِّلاً ذلك بقوله: (وليس في ذلك إقرار بالكفر ولا رضًا به، فما هو إلا دفع شرِّ الشرين، واحتمال أخف الضررين).

ولا شك أن هذا الكلام بعيد عن الصواب، مدفوع بالأدلة، وكنت أتمنى من الشيخ ـ وفقه الله ـ أن يقف مطالبًا اللجنة الدستورية ـ وأغلبيتها من الإسلاميين ـ بتطبيق الشريعة، لا أن يبرر الفعل، ويحصر أهل مصر في خيارين لا ثالث لهما: إما هذا الدستور (المشتمل على مواد كفرية)، وإما أسوأ منه، ولماذا لا يكون الخيار الثالث بل الأول والأوحد: تطبيق الشريعة؛ أليسوا في اللجنة بمسلمين؟ أليس عامة أهل مصر من المسلمين؟ أليس أهل مصر يحبون الله ورسوله ويريدون أن يحكم فيهم بشرع الله لا بأهواء البشر؟ ثم حثَّ الشيخ على التصويت على هذا الدستور المشتمل على الكفر بقوله: (وأنتم تعلمون أن ترك التصويت للدستور مما يسر العدو في الداخل والخارج، فكلهم يترقبون ذلك منكم…). قال الكاتب غفر الله له: وأهل الإسلام لا يسرهم التصويت على دستور مشتمل على الكفر.

ثم أعود إلى أصل المسألة فأقول:

أولًا: لعل الشيخ ـ وفقه الله ـ لم يتصور النظام الديمقراطي الذي ارتضته جماعة (الإخوان المسلمون) الحاكمة في مصر ودعت إليه. والحكم على الشيء فرع عن تصوره. ومن المعلوم أن الأساس الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي هو تنحية الشريعة، وتحكيم العباد في العباد، وتجريد الله عن حكمه في خلقه، ويعبر عنه بسيادة الأمة، أو سيادة الشعب، أو الأمة مصدر السلطات، وهذا يعني أنه ليس مرادهم الديمقراطية الإجرائية، التي تعد أخف شرًّا من الديمقراطية التشريعية، وسيتضح ذلك إن شاء الله فيما بعد.

ثانيًا: إن هذا المسلك ليس مؤقتًا لجماعة (الإخوان المسلمون) بل هو شيء نابع عن قناعة ذاتية ـ ولا أقول شرعية ـ في تحصيل السلطة، وقد أصدر الإخوان المسلمون في مارس 1994م بيانًا بعنوان: (الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم)، وجاء فيه: أن الأمة هي مصدر السلطات، والإقرار بوجود دستور مكتوب يفصل بين السلطات والحريات، وهو الذي قرره حزب النهضة التونسي، وحزب جبهة العمل الإسلامي الأردني (انظر: نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية، للدكتور محمد مفتي ص74ـ75).

والسلطات التي مصدرها الأمة هي: (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، ومعنى ذلك أن التشريع سيكون للناس، فمنهم يبدأ، وعليهم يطبق، والكتاب والسنة بمعزل عن ذلك.

ثالثًا: إن من أركان النظام الديمقراطي اعتماد الحرية أساسًا للتشريع، على معنى أن الأصل هو حرية الفرد، وينبني عليه حرية الاعتقاد، وحرية السلوك، وحرية الأخلاق، وحرية اختيار الحكم…، فإذا اختارت الأغلبية شيئًا فهو التشريع الذي يجب الحكم به والتحاكم إليه، ولو اختاروا الإسلام شرعة ومنهاجًا فهو لم يكن بأمر الله وحكمه، ولكن باختيار البشر ورضاهم، نسأل الله العافية والسلامة، والثبات على الإسلام والسنة.

ولما كانت المجتمعات تضم أطيافًا مختلفة، ومللاً وأهواء متعددة، كان لا بدَّ من أجل سير العملية الديمقراطية من تنازلات، يعبر عنها بالحل الوسط، أو الحل التوافقي؛ وعليه فمبدأ تطبيق الشريعة من أساسه مرفوض؛ لأنه يتنافى مع مبادئ الديمقراطية.

وإذا علم ما تقدم وجب استصحابه في الحكم؛ ضرورة شرعية وعقلية؛ وإلا كان الحكم بمعزل عن الواقع.

رابعًا: إذا تقرر هذا تبين أن أصل الدستور جاهلية لا يجوز وضعه ابتداء؛ لأنه محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ووضع للبشر موضع الخالق، والله سبحانه يقول: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ويقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ويقول: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) ويقول جل شأنه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويقول: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

خامسًا: نقول: هذا الدستور المشتمل على المواد الكفرية هل سيطبق بعد التصويت عليه أولاً؟ والجواب: أنه سيطبق؛ لأنه محصل التصويت؛ وعليه فهذه المواد الكفرية يجب على الدولة تطبيقها، وعلى الشعب تنفيذها، وعلى الجميع قبولها، والتحاكم إليها، وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وفي الآية الأخرى (فأولئك هم الظالمون) وفي الثالثة (فأولئك هم الفاسقون)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وقال تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحدٌ في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنةً جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حقٍّ ليهريق دمه).

سادسًا: الاستدلال بقاعدة: (دفع أعلى الضررين بارتكاب أخفهما) في غير موضعها، وبيان ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن الاستدلال بالقاعدة المذكورة له وجه لو كان في مسألة دفع شيء محقق، وحقق فيه المناط على وجه يعيّن أخفَّ الضررين وأعلاهما، ولم يكن خيار إلا ذلك، أما وهو شيء أنشأه المجلس التأسيسي، وأغلبية أعضائه من الإسلاميين، وهناك خيارات أخرى كما في الوجه الثاني؛ فلا وجه لذكر القاعدة، بل الفرض هو تحكيم الشريعة، والتعامل مع الطائفة الممتنعة على مقتضى الشرع، كما هو مقرر عند العلماء، لا سيَّما وأن عامة الشعب المصري مع تطبيق الشريعة؛ فسيكونون عونًا للحاكم بإذن الله.

الوجه الثاني: لو قلنا ـ على فرض صحة التصويت ـ: إن الوجه لدفع الضرر الأكبر هو التصويت برد الدستور ما دام مشتملاً على هذه المواد الكفرية؛ حتى لا يكون فيه شيء يعارض الإسلام، وبُيَّن للناس ذلك؛ فإن عامة المسلمين يريدون شرع الله؛ إلا من فتن عن دينه، لو قلنا ذلك لكان أسلم مما ذكره الشيخ، ولكان فيه نصح للراعي والرعية، وأقرب إلى قواعد الشريعة، ولا سيما القاعدة التي استند عليها الشيخ.

وخلاصة ذلك أن القسمة ثلاثية: تصويت على قبول الموجود مع اشتماله على المواد الكفرية، أو قبول ما هو أسوأ منه، أو التصويت ضد هذا الدستور حتى لا يكون فيه شيء معارض للشريعة، والشيخ حصر القسمة في الأولين وأهمل الثالث؛ وحكم بارتكاب أخف الضررين، وهذا قصور يستوجب دفع الاستدلال بالقاعدة المذكورة رأسًا.

سابعًا: كيف يسوغ للشيخ دعوة الناس للتصويت على قبول الدستور المشتمل على الكفريات، والله يقول: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، ويقول سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؟ والدعوة إلى الكفر من جنس الرضا به والإقرار، أو أشد، بل الدعوة إلى الكفر منشؤها ـ في الأصل ـ الإقرار به والرضا.

وأذكِّر هنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 14/328): (فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. والله سبحانه وتعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وأن لا يكون الدين إلا له، وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، وأن لا يتوكل إلا عليه ولا يستعان إلا به. فالمؤمن المتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل ليكون الدين كله لله لا له، وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه وسر بوجود مطلوبه).

ثامنًا: ماذا يصنع الشيخ وفقه الله بمثل قوله تعالى لسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وقوله عن الخليل عليه السلام:(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، وقوله عن الكليم موسى عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).

وبعد: فهذا جواب لبعض ما ذكره الشيخ وفَّقه الله في البيان؛ وإن كانت هناك أمور أخرى لكنها أخف من هذه على تفاوت بينها في ذلك. أسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع قلوبهم على الحق، والحمد لله رب العالمين.


شارك المحتوى: