حوار هادئ مع إعلامي في مسألة الحاكم المتغلب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسلام على من لا نبي بعده،

أما بعد،

فقد نشر إعلاميٌ مقطع فيديو من برنامج له يجيب فيه على أسئلة المتصلين، وفي المقطع المنشور اتصال من امرأةٍ عامَّية سألته عن معنى الحاكم المُتَغَلِّب! فأجاب إجابة اشتملت على جملة أخطاء ومغالطات لا يحسن السكوت عنها، ناهيكم عن ركاكة الأسلوب ورداءة اللغة، والمضحك المبكي أنه نشر الفيديو في حسابه بـ تويتر متحديًا -على طريقة صبية الحواري- أنه لا يستطيع أحد مواجهته فيما قاله! وأنا معه إن كان يريد بتحدِّيه الأسلوب واللغة! ومن أراد نص كلامه فليراجع حسابه.

وأودُّ في هذا المقال أن أبين للقارئ والمتابع الحريص على معرفة الحق والصواب جانبًا من مغالطاته، وأحاول قدر الإمكان اختصار الرد وإيجازه في نقاط وتساؤلات.

أولًا: ألا تدري أيها الإعلامي أن كلام ابن تيمية في مسألة الحاكم المُتَغَلِّب (وسيأتي بيانها) هو مذهب عامة أهل العلم، وعلى رأسهم الإمام الشافعي وتلميذه الإمام أحمد رحمهما الله؟ ألا تعلم أيها المسكين أن العلماء كابن بطال المالكي وابن حجر الشافعي وغيرهم نقلوا إجماع أهل العلم واتفاقهم على ما ذكره ابن تيمية! وهو الذي قرَّره كبار فقهاء المذاهب كابن أبي زيد والنووي، والغزالي وابن قدامة والقرطبي! فهل يقال إن كلام هؤلاء العلماء وعلى رأسهم من ذكرتُ قنبلة موقوتة وهم أحرص على الدين والأوطان وأغير عليهما مني ومنك؟! ثم بأي حق تضع شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع التهمة وتظهر قوله للعامَّة والخاصَّة على أنه قول شاذٌّ تبنَّتهُ جماعات منحرفة تتبنى الخروج والانقلابات والثورات منهجًا كجماعة الإخوان؟! ألا تتقي الله؟!

إنَّه لا يخفى على من شمَّ رائحة العلم فضلًا عن طالبه أن تراث ابن تيمية رحمه الله مَلِيءٌ بالتقريرات السُّنية في باب معاملة الحكَّام، ومن هذه التقريرات يستقي من جاء بعده من العلماء أصول هذا الباب وقواعده من وجوب السمع والطاعة للحاكم، وتحريم الخروج عليه، بل وقتال من ينازعه في سلطته، والرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة في هذه الأصول من الخوارج وغيرهم، فكيف يقال بعد ذلك كله إن كلام ابن تيمية كلام وفتوى من لا ولاء له لوطنه وولاة أمره؟! سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم.

يقول ابن تيمية: “مذهب أهل السُّنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم”. ويقول أيضًا: “أهل العِلم والدِّين والفضل لا يُرخِّصُون لأحدٍ فيما نهى الله عنه مِن معصية ولاة الأمور، وغِشِّهم، والخروج عليهم بِوَجهٍ مِن الوجوه”. ويقول آمرًا الناس بالإخلاص في طاعة ولاة أمورهم ومحذرًا من أن تكون طاعتهم لمآرب شخصية أو مصالح دنيوية: “وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يُطيعهم إلا لِمَا يأخذه من الولاية فإنْ أعطوه أطاعهم، وإنْ منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق!”.

أسألك بربك أخي القارئ هل هذه الكلمات تخرج من إنسان ليس له انتماء لوطنه ولا ولاء لولاة أمره؟ هل من سطَّر هذه الكلمات يوصف كلامه بأنه قنبلة موقوته، أو فيه نفس ثوري وخارجي؟ أليس هذا هو الظلم بعينه؟ إنَّا لله.

ثانيًا: ليكن في علمك أيها الإعلامي أنَّ علماء الشَّرع -في القديم والحديث- يقررون مسائل العلم وقواعده، ويعرضونها لغرض بيان حكم الله، وبيان الحق للخلق، بعيدًا عن مزايدات الإعلاميين، وتهويلات موقدي الفتن، وتخيُّلات المتربصين ومن يصطاد في الماء العكر، فَذِكْرُهم -على سبيل المثال- لمسائل المواريث ونصيب الأولاد ذكورًا وإناثًا من تركة آبائهم، ونصيب الزوجة من تَرِكَة زوجها إنما هو لبيان الحكم الشرعي، فلا يأتِ آت ويقول إنهم بكلامهم هذا يحثُّون الأبناء والزوجات على التطلُّع لما في أيدي الآباء والأزواج من الأموال، وبالتالي يتمنون موتهم وهلاكهم! وكذلك كلامهم في إسقاطهم الحد عن السارق -لفقد شرط أو وجود مانع- ليس ترغيبًا منهم في السرقة والجريمة وأكل أموال الناس بالباطل! وكذلك إيجابهم السمع والطاعة للحاكم الظالم، لا يقال إن فيه إقرار للظلم والبغي والفساد! هذا لا يقوله عاقل.

ثالثًا: عرضُكَ المسألة بهذه الطريقة السَّمِجَة وضربك الأمثال بدولتنا الغالية، وبحكامنا الذين نحبُّهم وفي أعناقنا بيعة لهم، وبِعَسكَرِنا حماة الوطن مِثَال سيِّء لم توفق فيه، وفيه من التعدِّي ما فيه، تخرُّصاتٌ وأحوال اشمأزَّتْ منها الأسماع والعقول، أيها الإعلامي ضربْتَ مثلًا بدولة شعبها وحكامها وعسكرها -منذ قيامها- لُحمة واحدة، وكُتلة واحدة، البيت متوحد والمجتمع متماسك كل ذلك بفضل الله ثم بفضل حكامنا وشعبنا الوفي، فهذه الأمثال وأضرابها إنما تُتَصوَّر في بلاد ومجتمعات عَمَّت فيها الفوضى، وتلاطمت فيها أمواج الفِتَن، وتفرَّق الناس فيها إلى أحزابٍ وجماعات متناحرة، لا يهدأ لهم قرار، ولا أمن ولا استقرار، يمسي الناس فيها على حاكم ويصبحون على آخر، فكيف سمحت لنفسك بضرب هذه الأمثال وطرحها لمجتمع لم تخطر بباله مثل هذه الأوهام؟ ثم ليس من ذائقة العرب ضرب الأمثال في المحبوب بما تكرهه النفوس، بل يترفَّعون عن ذلك، فلا تقول مثلًا: لو أن رجلًّا زنا بامرأتك! أو: لنفرض أن أباك قُتل! أو: أنَّ ابنك جُزَّ رأسه! فانتقِ في المرات القادمة أمثلة أخرى ملائمة إيجابية متفائلة.

رابعًا: كان ولا يزال العلماء يقررون هذا الأصل في كتبهم ومؤلفاتهم ويدرسونها للطلاب في مجالسهم، وتكون لهؤلاء العلماء المُكنة والمكانة في دولهم وعند ولاتهم، والحظوة في مجتمعاتهم، دون أن يزايد عليهم أحد في ولائهم وحبِّهم لأوطانهم وولاة أمرهم، ولنأخذ على سبيل المثال وفي عصرنا هذا علماء الشقيقة الكبرى (المملكة العربية السعودية) فعلماء المملكة -حرسها الله- كابن باز وقد كان المفتي العام للملكة، وابن عثيمين وهو أحد كبار أعلامها، والدكتور صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء فيها، قرَّروا للناس في كتبهم ودروسهم ومحاضراتهم هذه القاعدة، ولم يطعن أحد من الناس في ولائهم لأوطانهم وقياداتهم، ولم يشغب عليهم أحد لا من إعلامهم ولا من عامة أبناء مجتمعهم، ولم نسمع من قادتها وأعيانها ومثقفيها كلامًا يجرحهم وينقص من قدرهم! اللهم إلَّا أهل التشغيب ممن تلوث فكرهم بلوثات حزبية أو تخطفت قلوبهم شبهات غربية.

خامسًا: أيها الإعلامي ألا فرغت نفسك دقائق لتقرأ كلام أهل العلم في المسألة؟ هلَّا سألت نفسك ومن حولك هل قال بهذا القول غير ابن تيمية حتى لا تقع فيما وقعت فيه؟ ألم تسأل نفسك ما معنى التغلُّب؟ ومن هو الحاكم المُتَغَلِّب؟ ومتى يكون متغلبًا؟ وما هي شروط الغلبة التي ذكرها العلماء؟ ألم يسعك إذ لم تعلم ولم تدرِ أن تقول: لا أعلم أو لا أدري! لكنه الطَّيش والتعالم، أسأل الله العافية.

مسألة الحاكم المتغلب أيها الإعلامي ليست لعبة (بلاي ستيشن) جيش يهجم على آخر وقبيلة تُغير على أخرى حتى تُعرض بهذه الطريقة، مسألة الحاكم المتغلب مسألة حرَّرها العلماء، وذكروا صورها وأحكامها وشروطها وضوابطها، وأقوالهم فيها مبثوثة في كتب العقيدة والفقه والسياسة الشرعية، لكن أنَّى للإعلامي وأمثاله أن يبحثها ويتأمل فيها وهو مشغول بترهاته وسخافاته في برنامجه والرد على اتصالات الخرفان والمتخرفنين؟

(الغلبة والقهر) باختصار طريقة من الطرق التي تثبت بها الإمامة، وقد أجمع عليها العلماء، وهذا الطريق وإن كان غير مشروعٍ، إلَّا أن العلماء قالوا بوجوب طاعة الإمام المتغلِّب للضرورة -كما نص الفقهاء- وتغليبًا لمصلحة المسلمين وحقنًا للدماء، يقول الإمام الشافعي: “كل من غلب على الخلافة بالسَّيف حتَّى يسمى خليفة ويجمع عليه الناس، فهو خليفة” ويقول الإمام أحمد: مَن وَلِيَ الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين”. يقول ابن حجر: ” وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلَّب، وأنَّ طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء”.

لكن من هو المتغلب؟ وكيف تكون له الغلبة؟ ومتى يؤمر الناس بطاعته؟ هل بمجرد حصول الفوضى؟ هل بمجرد إعلان الخروج وتعيين قائد للانقلاب؟ وقبل ما هو حكم منازعة الإمام في سلطانه؟ وهل الانقلابات مشروعة؟ وما رأي ابن تيمية في هذه القضايا والمسائل؟ يرى ابن تيمية كغيره من أئمة أهل السُّنة عدم جواز منازعة الإمام المسلم في سلطانه، ومن نازعه في شيء من ذلك وخرج عليه وشقَّ عصا الطاعة وفرَّق أمر المسلمين فإنه يُردع ولو بالقتل، هذا حكم الشَّرع فيه، قال عليه الصلاة والسلام: “من أتاكم وأمرُكم جميع على رجُلٍ واحدِ يريد أن يَشُقَّ عصاكم أو يُفرَِق جماعتكم؛ فاقتُلوه”، فيُؤمر ولي الأمر بقتاله ومن معه من الفئة الباغية المنقلبة وكفِّ شرِّهم، ويناصره في ذلك عسكرُه وجندُه، فهم مأمورون شرعًا بطاعته والاستجابة لأمره، ويؤمر الناس كذلك بطاعته ونصرته ولزوم جماعته، ويُحذَّرون من مغبَّة الخروج عليه وعصيانه، حتَّى يستتب الأمر، لكن إن انقلبت الموازين وكانت الغلبة للباغي، وتوفَّرت له المَنَعَةُ والشَّوكة، واستقامت له البلاد، ودان له أهل الحلِّ والعقد وهم أهل الرأي وأهل القوة في البلد، بهذه الشُّروط، وليس كما صوَّره وعرضه سماحة الإعلامي، فإذا تحققت الشروط فحينئذٍ تتحقق ولاية المتغلِّب، وإن كان الطريق في بداية الأمر محرم وغير مشروع. قال ابن قدامة: “ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إمامًا.. فإن عبد الملك بن مروان، خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يحرم الخروج عليه؛ وذلك لما في الخروج عليه من شقِّ عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم”. ويقول ابن تيمية: “الإمامة عندهم -يريد أهل السنة والجماعة- تثبُت بموافقة أهل الشَّوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشَّوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة”. فما قرَّره ابن تيمية وغيره، هو عين ما قرَّره العلماء قبله وبعده، وهو الأمر الذي أراد الإعلامي أن يذم به أهل العلم والفضل، ويشغِّب به على من سلك طريقهم، ولكن هيهات أن يصل إلى مراده ومبتغاه، كيف يصل والله قد تكفل بنصرة أوليائه وتوعَّد من آذاهم بالحرب، فنعم المولى ونعم النصير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

للوقوف على شيء من أقوال ابن تيمية ومعرفة تقريراته في مسائل الإمامة ومعاملة الحاكم، ينظر:

منهاج السنة النبوية: 1/115، 1/527، 3/391.

مجموع الفتاوى: 23/12، 23/16، 28/390، 28/179، 35/175، 35/12، 35/16.

كتبه:

محمد الحاجوني.


شارك المحتوى: