خطبة عن السمع والطاعة العسر واليسر والمنشط والمكره
فايز بن مساعد الحربي
خطبة عن السمع والطاعة العسر واليسر والمنشط والمكره
الشيخ فايز الحربي
ألقيت في جامع عمر بن الخطاب بحي التعاون بالرياض يوم الجمعة 29-12-1437ه
الحمد لله الذي جعل دينه دين رحمة واجتماع ، وأمر المسلمين بالاعتصام بحبله ليسلموا من التفرق والضياع ، وجعل النجاة لمن استسلم لشرعه وأطاع ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الـمُـتبع الـمُطاع ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرا ، أما بعد:
فإن من أصول اهل السنة والجماعة ومعتقد السلف الصالح : عقيدة السمع والطاعة لولي الأمر المسلم في غير معصية الله ، ومن خالف فيها وقع في البدعة ووجب الحذر والتحذير منه ، قال تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم ( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) وقال عليه الصلاة والسلام ( السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وقال وهو الذي لا ينطق عن الهوى « مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً » ، وقد بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا « فِيمَا اسْتَطَعْتَ ». ثم بايعوا ابا بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذا النورين ثم أبا السبطين علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا مضى أهل الإسلام يبايعون ولي أمرهم ، فأصبحت عقيدة السمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية الله أمر مجمع عليه بين السلف الصالح يذكرونه في كتب العقائد ، حيث أخبر الإمام البخاري أنه لقي أكثر من ألف رجل في مكة والمدينة والعراق والشام ومصر وأنه أدركهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة فما رأى واحدا منهم يختلف في : ألا ننازع الأمر أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم) .
أيها المسلم: إن سمعت من يقول: أنسمع ونطيع حتى في أمور العسر وما نكرهه ؟ فقل له قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ) ، وقل له إن كنت تطيع ولي الأمر فقط لأجل الدنيا التي يعطيك فاعلم أنك متوعد يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم- « ثَلاَثٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : وذكر منهم : رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ ».
فإن قال : هم يقعون في منكرات شرعية ويأخذون الاموال والمخصصات ولا يعطوننا ونحن في فقر وديون؟ فقل له: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة أن نعطيهم حقهم علينا وهو السمع والطاعة في غير المعصية ونصبر على جورهم كما في قوله ( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالَ: قُلْنَا مَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ) وقال عليه الصلاة والسلام « يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ » فسأله حذيفة بن اليمان: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ « تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ »، قال الشوكاني معلقا على هذا الحديث: وفيه دليل على وجوب طاعة الأمراء وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية وأخذ أموالهم.
فإن قال ذلك الرجل: إلى متى ونحن نصبر؟ فقل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على جورهم ولو إلى يوم القيامة فقد قال « إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ»
فإن قال: هذا ظلم ويجب أن نخرج عليهم لننكر الظلم !؟ فقل سئل رسول اللَّه عن شرار الأئمة الذين تبغضهم رعيتهم وهم يبغضون رعيتهم ويلعنونهم : أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ « لاَ ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ » ، ثم قل له: لقد بايع الصحابة رسول الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِهم وَمَكْرَهِهم وَعُسْرِهم وَيُسْرِهم وَأَثَرَةٍ عَلَيْهم وَأَنْ لاَ يُنَازِعَوا الأَمْرَ أَهْلَهُ ، ثم قَالَ لهم: « إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ».
فإن قال ذاك الشخص: فكيف نعمل إذن؟ فقل له: نناصحه سرا بيننا وبينه لا على المنابر وفي وسائل الإعلام كما قال صلى الله عليه وسلم : « من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية ، ولكن ليأخذ بيده ، فيخلو به ، فإن قبل منه فذاك ، وإلا كان قد أدى الذي عليه له » وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قِيلَ لَهُ أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: ( أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ).
فإن تردد وتلكأ بعد ذلك ، فقل له: إن المسلم يستسلم لوحي الله وسنة رسوله ولا يقول إلا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم اقرأ عليه قول الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} فإن لم يستجب لهذه النصوص الشرعية فاحذره ولا تجالسه فإنه رفيق سوء.
اللهم اجمع كلمتنا على الحق ووفق ولي أمرنا لكل خير واهد ضال المسلمين ، واغفر لنا وارحمنا يارحمن يارحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين: أما بعد:
فإن لولي الأمر سياسة أمور بلده ورعيته وفق شرع الله وما يراه من المصالح المرسلة ، فإن أصاب الحق فهذا خير ولله الحمد ، و إن أخطأ أو ظلم فيصبر عليه ويناصح ويدعى له ويطاع في غير معصية الله ، ولا يخرج عليه إلا إذا اجتمعت الشروط وهي وجود الكفر الظاهر من الحاكم ووجود القدرة في تغييره دون وجود منكر أكبر كما هو حاصل في الثورات والمظاهرات التي جرت النكبات والويلات على المسلمين.
وقد يكون اجتهاد ولي الأمر في بعض سياسته أمرا يعود لصالح البلاد والعباد لكنها لم تتبين الأمور للناس كما تبينت له فوجد انها من المصلحة { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } كما أن الناس يتفاوتون في تقدير الخطأ في الأمور الاجتهادية فإنك قد ترى أن هذا الأمر خطأ بينما يراه غيرك صوابا ، فلا ننجرف مع المحرضين والخوارج والمرجفين ، فإن من طرقهم تهييج الناس على ولي أمرهم في كل حادثة تتعلق بالأموال لأن النفس البشرية مجبولة على حب المال ولأنهم يعلمون أن من الناس من ينطبق عليه قول الله تعالى {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ، لذلك اعترض ذو الخويصرة على السياسة المالية للنبي صلى الله عليه وسلم واتهمه بالظلم ، وقدح في عدالته ونيته فقال: اعدل يا محمد فإنها قسمة ما أريد بها وجه الله ، ثم اعترض ابن سبأ اليهودي على السياسة المالية للخلية الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى هيج الناس عليه، فطعنوا فيه ، وقدحوا في عدالته ، ومنهجه في اختيار أمراء الأقاليم ، باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى حاصروه في بيته ثم قتلوه ، وهكذا هم الخوارج وأمثالهم لن يرضوا بسياسة أحد من ولاة أمر المسلمين ما لم يكن منهم ؟
وبهذا يتبين لكل عاقل أن الشريعة أمرت بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة ، وحرمت التفرق والاختلاف والخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله ، لما في ذلك من المنافع والمصالح التي تعود على الناس في دينهم وحياتهم لا لأجل مصالح الحكام وحدهم .
فكيف وأصول الدين محفوظة في بلادنا ، والمساجد منتشرة معمورة ، نؤموها ليلاً ونهاراً لا نخشى إلا الله، ونعيش حياتنا اليومية في أمن وطمأنينة والحمد لله على فضله ، وولاة أمرنا يعلنون على الملأ أنهم يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه ، ويفتخرون بخدمة الحرمين ، وطباعة كتاب الله ، ونشر الإسلام ، فلنقف معهم صفا ضد كل عدو وحاقد ونتعاون معهم على البر والتقوى مع مناصحتهم والدعاء لهم ، فلو أن أحد من الآباء لم يعدل في سياسة أمور زوجته وأولاده ؟ فهل يقال لأبنائه عقوه ولا تبروه ؟ أم يقال لهم: اصبروا وبروه كما أمركم الله وحاولوا لعل الله يهديه { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وهكذا مع ولي أمرنا نبره وندعو له ونناصحه بيننا وبينه ولا ننازع الأمـر أهله كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأصلح ولاة أمرهم يا رحمن يا رحيم، اللهم وآمنا في دورنا وأوطاننا، وأصلح ووفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ونائبيه وأعوانهم لما تحب وترضى، اللهم من أراد ديننا وبلادنا وبلاد المسلمين بشر وفتنة فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره وسلط عليه ياقوي ياعزيز، اللهم انصر إخواننا العساكر ورجال الأمن اللهم احفظهم وسدد رميهم واشف مرضاهم وارحمهم موتاهم يارب العالمين، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ