سمّوا لنا شيوخكم .. وبيّنوا إسنادكم في الدين
محمد بن علي الجوني
الحمد لله الموصوف بصفات الكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى الصّحب والآل.
أما بعد
كان الصحابة ضي الله عنهم في صدر الإسلام وفي ابتداء أمر هذه الأمّة، يُحسنون الظنّ بكلّ من تكلّم في دين الله، ونسب الحديث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحملون النّاس على الصّدق في حديثهم، والعدالة في دينهم، لصلاح الناس، واجتماع قلوبهم، وقُرب عهدهم بأنوار النبوة وهدايات الرسالة.
فلما ذرّت قرون الفتنة، واختلف الناس، وصارت كل طائفة تريد الاستقواء بنصوص الشرع لإثبات صحة مقالتها، وبُطلان مقالات ومذاهب من خالفها.
صار الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم بإحسان لا يرفعون رأسا بكلّ من تكلّم في الدين، أو زعم نسبة قوله إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى يسمّي لهم شيوخه، ويبيّن لهم إسناده، ليتبيّن المُحقّ من المبطل، ويتميّز المؤمن الصّادق من الدعيّ الأفّاك.
واقتفى المحدّثون هذه الصناعة، وصاروا يحاكمون المرويّات إلى هذا الميزان، فلا يقبلون قولا لقائل في الدين حتى يوازنوا قولهُ بقول غيره من أقرانه ونُظرائه، ويسبروا مرويّاته، فإن وافق مروياتهم، وقلّت مخالفته لهم، قُبل حديثه واتُّقي خطؤه، وحكموا له بالصدق في حديثه، والعدالة في دينه، وإن أكثر من مخالفتهم والشذوذ والإغراب عن مرويّاتهم، ردّوا حديثه، وبيّنوا زيفه، واتّهموه باختلاق المرويّات، ووضع الأحاديث المكذوبات.
تلك كانت سُنّتهم، وتلك كانت طريقتهم في تفنيد الأباطيل، وردّ الأكاذيب عن الشريعة المطهّرة، وكذلك سيبقى الدين الحقّ الذي أنزلهُ الله هدىً ورحمة وبشارة ونذارة على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى لا تجتال حقائقه الشياطين، ولا تمتدّ إليه أيدي وألسنة العابثين.
وكذلك سيبقى العلماء الربانيّون والأئمة المهديّون يذودون عن حياضه، ويكفّون صيال خصومه، ويدفعون قالَةَ شانئيه، لينقلوه لمن سيأتي بعدهم كما نقلهُ إليهم من سبَقهم غضّا طريًّا كما أُنزل.
فالقولُ في الدين ليس أمراً مفتوحا لكلّ أحد، فكلّ يدّعي النّظر في الأدلة، وكل يدّعي استنطاق نصوصها والاستنباط منها، ثم يستخرج لنا قولا مُخترعا مُبتدعا لم يسبقه إليه أحد، بل لم يدر -قبله ولا بعده- في خلدِ أحد، ثم يدّعي زورا وبُهتانا الاجتهاد المطلق وهو لم يملك آلته، وأنّ الفقهاء والعلماء غفلوا عن هذا القول الصّحيح الذي أصابهُ أو تحاموا الإفتاء به أو أعرضوا عن الحُكم بموجبه، وأنّهُ وحدهُ من أحسن الصنيعة مع الله وصدق في التفتيش عن الحقّ حتى هُدي إليه، وهذا فيه ما فيه من اغترار بالنفس، وتزكية لها، وإساءة ظنّ بعلماء الأمة ومجتهديها، وازدراء لعلومهم ومقاماتهم في الدين.
هذه الطريقة الحادثة في التلقّي والنّظر والاستنباط والاستدلال ليست دينًا كما يزعمُهُ من ينعق بها، ولا يمكن للعلماء المرضيّون قبول هذه الطرائق أو العمل بها او التغاضي عنها، مهما كانت مبرراتها وجساره من يدّعيها، واستطالتهُ بالوقيعة على من نازعه، وجراءتهُ على اقتحام ما تحاشى العلماء والصالحون والمجتهدون ورودهُ وتقحّمه من إحداثٍ للمقالات الفاسدة واستخراج للآراء الباطلة المنسوبة للدين.
والنّاظر في أحوال وسلوكات كثير ممن يدّعي هذه الدعاوى، وينعق بهذه الأضاليل، يجدهم من أكثر الناس جهالة بالشّرع، واستباحةً لمحارمه، وانتهاكًا لحدوده، فجمعوا بين السوءتين، جهل مركّب بدينهم، ودين مُتهتّك في سلوكهم.
قولَةُ الحق في الدين ليست طلّسما ولا لغزا ولا سرّا مكتوما ولا علماً مضنونا به على غير أهله حتى تكون خافية منذ أزمنة غابرة على العلماء على تتابعهم قرنا بعد قرن وطبقة إثر طبقة، ثم يأتي هذا المتأخر ليزعم تضييعهم للحقّ ويتّهمهم بكتمانه والتستّر عليه، فيطعن لأجل ذلك في دينهم وفي نيّاتهم وفي صدقهم مع الله، وأنّهم عرفوا الحق فتمالأوا على طيّهِ وكتمانه لعدم موافقته لأهوائهم وأغراضهم ومألوفاتهم أو لمُنازعته لهم في حظوظهم الدنيوية ومصالحهم المعيشية أو ينبزهم بأنّهم كانوا جهلةً يفتون النّاس بما يخالف الحقّ في نفس الأمر.
فالقول في الدين ليس نصيبًا مُشاعًا لكلّ أحد أو ضيعةً لا رقيب على من تخوّض فيها ولا حسيب على من تسوّر حدودها واقترب من حِماها، بل الدين حصنٌ منيع وحوزةٌ تُصان ويُذادُ عنها في وجه من حَملَهُ غلوّهُ وتنطّعهُ على التشديد والتضييق على النّاس أو ساقهُ تحللهُ وتتبعهُ الرُّخص على تضييع الدين، والتفريط في حدوده.
فالقول المقبول في الدين هو القول الذي انتشر في الأمة، وقال به علماؤها وأئمتها، وتناقلهُ علماء السنّة والأثر، وتتابعوا على تقريره والاستشهاد له والتدين لله به.
وليس في ديننا باطنٌ وظاهرٌ كما تزعمهُ الهرمسية الغنوصيّة، باطنٌ يجب طيّهُ وكتمانه، وظاهرٌ يجوز نشرهُ واشاعته وإذاعته في الخلق.
وليس في ديننا حقيقةٌ وشريعةٌ كما يدّعيه العُرفاء والمتصوفة، حقيقةٌ للخواص لا يعرفها إلا من بلغ رُتبتهم وسلك طريقتهم، وشريعةٌ يُخاطب بها ويحاكم إليها السّوقةُ وعوام المكلّفين.
وليس في ديننا ما ادّعتهُ الفلاسفة من القول بالخطاب البرهاني للحُذاق والنّابهين ممن تعلّم الفلسفة وأتقن قانونها، وتبحّر في مذاهبها، وخطاب وعظيّ جدليّ نُظهرهُ لعامة المسلمين، فهو خطاب لا يصلح إلا لهم.
وهؤلاء الفلاسفة هم الذين سمّاهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في غير موضع من مجموع الفتاوى أهل التخييل، ونعتهم بأنّهم يزعمون أنّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر المكلفين بالإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق، لينتفع به الجمهور لا أنه بيَّن به الحق، وهدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
أما خطاب البرهان فهو خطاب الحكمة بزعمهم الذي يجب أن يُكيّف الدين له، ويُتأوّل ليتوافق معه، فهو الدين الذي لا يُقبل منه إلا ما اتّفق من حقائقه مع قواعد أرسطوا وافلاطون حتى يتواءم مع ضرورات العقل، وهذا القسم من الدين عندهم لا يُخاطب به العوام ولا ينبغي أن تُذاع أسراره، وتُنشر أخباره، فعامة الناس لقصور مداركهم، وضعف قواهم العقلية لن يقبلوه ولن يؤمنوا به.
وهؤلاء جرّدوا النّظر في المعقول، ولم يستسلموا للمنقول، فوقعوا في غمرة الإشكال، وتماروا في حمأة التحيّر، ويلزم من قولهم نسبة الكذب إلى الأنبياء لأجل المصلحة كما ألزمهم به شيخ الإسلام رحمه الله في الحمويّة.
ومن طلب السّلامة في دينه، واطمأنّ به، ولم يخاطر بيقينه، علم أنّ النقل الصحيح لا يصادم العقل الصريح، بل العقل يشهد له ويقضي به، وهذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم الذي به يكون التسليم للشرع، وعدم الابتداع فيه.
كتبه محمد بن علي حسن الجوني
محرم ١٤٤١