د. عبدالعزيز بن ريس الريس
شهر رمضان يا أهل الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،، أما بعد:
فإن شهر رمضان على الأبواب، وأيام انتظاره أضحت ساعات.
فمن يا ترى يلجه ويقوم بحقه؟!.
إن الوالجين من المسلمين كثيرون، فما أكثر الذين يتباشرون بدخوله ويصومونه، لكن من الذي يحصل فيه مرضاة ربه حقاً، وذلك بالجد والاجتهاد في طاعة الله وعبادته صدقاً.
إخواني: كم نتحسر في نهاية كل رمضان فائت على تقصيرنا فيه، ونعقد العزم إن بقينا إلى قابل أن نجد ونجتهد، فما إن يحل بنا رمضان الجديد ويمر الأسبوع الأول إلا ويغشانا الفتور والكسل!!
فيا ربنا ارحمنا وأعنا على عبادتك في رمضان حق العبادة، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك، فإياك نعبد وإياك نستعين.
وهذا التقصير الذي يعترينا كثيراً يمكن علاجه بأمور:
الأول: صدق الالتجاء إلى الله والتضرع إليه والإلحاح عليه، بأن يعيننا على عبادته في هذا الشهر من صيام وصلاة نافلة وقراءة للقرآن وذكر، وهذه طريقة الأنبياء من قبل كما قال تعالى عن إبراهيم – عليه السلام-: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (ابراهيم:40) ومن ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل. رواه البخاري عن أنس.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كان نبى الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمسى قال « أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب فى النار وعذاب في القبر ». وإذا أصبح قال ذلك أيضا « أصبحنا وأصبح الملك لله ».
الأمر الثاني: الحرص الحرص، والبدار البدار إلى اغتنام الأوقات وعدم التواني، فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز”.
الأمر الثالث:تنظيم الوقت وتحديد العبادة على وجه التنظيم، فمن حدد لنفسه أن يختم كل ثلاث لزمه أن يقرأ كل يوم عشرة أجزاء، فلابد أن يجاهد نفسه على ذلك، ويهيأ لها وقتاً ، فإذا انقضى اليوم ولما يتم حزبه من القرآن قضاه في اليوم الذي يليه مع حزبه الجديد، أما من جعل قراءة القرآن لوقت الفراغ كيف ما اتفق، فسيتلاعب به الشيطان، حتى تمر الأيام بل الشهر وهو لم يختم ولو مرة واحدة، فعلينا بالحزم مع أنفسنا فإنها تدعو إلى الخلود والدعة، والحزم معها في هذا الباب مما يخالف رغبتها ومشتهاها، والله يقول: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات:41).
وقال تعالى(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : 22]
ومن ذلك أيضاً أن يحدد المسلم لنفسه عدداً من الذكر لا ينقص عنه، كأن يستغفر في اليوم ألف مرة، من غير اعتقاد أفضلية لهذا العدد، وإنما لأنه المتيسر على المتعبد في الغالب قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (52 / 9): وكان لأبي هريرة خيط فيه ألفا عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به .
وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح .
وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال : مئة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت ، فلما بلغت القبر ، اختلست من بين أيدي الرجال ا.هـ
الأمر الرابع: مطالعة سير الأولين من السلف السابقين كالصحابة والتابعين لهم بإحسان، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)، لقد كان سلفنا أهل إقبال على القرآن في هذا الشهر، قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة و غيرها، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان. وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، و في بقية الشهر في ثلاث. وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، و في رمضان في كل ثلاث، و في العشر الأواخر كل ليلة. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، و عن أبي حنيفة نحوه. و كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام. قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة القرآن من المصحف. قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري : إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن. و كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. و قال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه.ا.هـ
فمن جعل هدي السلف واجتهادهم في العبادة نصب عينيه، ازدرى عمله ونفسه، ثم رجع عليها باللوم والتوبيخ، فكدها عسى أن تفلح، ومن هوى الدعة والراحة تنجو.
وقد يظن ظان أن ذلك بعيد في مثل زماننا الذي كثرت فيه الملهيات وليس كذلك، فقد رأيت جمعاً من إخواننا يختم كل يوم ختمة في أكثر العشر، بل أدركت أحد الصالحين يختم ختمة في كل يوم من رمضان، فإذا دخلت العشر ختم كل يوم ختمتين .
فإن قيل ألا يتعارض ذلك مع ما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه.
فالجواب: أنه لا تعارض بينهما، وعلينا أن نفهم السنة بفهم سلف الأمة لأننا سلفيون بحمد الله، والسلف غلبوا جانب القراءة في رمضان على التفقه فيه، قال ابن رجب في لطائف المعارف: و إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان و هو قول أحمد وإسحاق و غيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره.ا.هـ
يا ليتنا – إخواني – نجعل هذا الشهر الكريم مدرسة نروض فيها نفوسنا على الطاعات من قراءة قرآن وقيام وصيام، فبعد رمضان تستمر نفوسنا على هذه الطاعات، فإن الأنفاس قليلة معدودة، فكل يوم يذهب يقللها ويدني من الأجل .
اللهم أصلح نفوسنا وزكها، فقد أفلح من زكاها، وبلغنا شهر رمضان وأعنا فيه على القيام بمراضيك .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبدالعزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
27/8/1430 هـ