عبر في فصل الصيف
د. ماهر بن عبدالرحيم خوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
“(عبر في فصل الصيف)”
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، أما بعد.
فإن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار
عباد الله :
إن كل ما في الدنيا يدل على خالقه ويذكر به ويدل على صفاته ، فما في الدنيا من نعيم وراحة يدل على كرم الخالق وفضلِه وإحسانِه وجودِه ولطفِه ، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب، يدل على شدة بأسه وبطشه وانتقامِه وقهرِه .
اختلافُ أحوال الدنيا من حر وبرد ، وليل ونهار وغير ذلك ، يدل على انقضاء الدنيا وزوالها . وإن ما نستقبله هذه الأيام من شدة الحر في فصل الصيف يُعد من المواعظ والعبر لمن كان له قلب ، فإن البرد والحر يتعاقبان في كل سنة , والمؤمن الصالح يعتبر بكل ما يحدث حوله ، فإن رأى شدة البرد تذكر زمهريرَ جهنم وبردها، وإن أحس بشدة الحر استعاذ بالله من سموم جهنم، فإن في تعاقب هذه الفصول من العبر ما لا يعلمه إلا الله – عز وجل- ، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله- ( ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول ، وما فيها من المصالح والحكم ، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه ، فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ، ولو كانت شتاء لفاتت مصالح الصيف ، وكذلك لو كان ربيعا كله أو خريفا كله..) ا.هـ .
ففي تعاقب الفصول حكمة بالغة وآية باهرة ، فتبارك الله رب العالمين, وأحسن الخالقين و {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ،، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}.
شدة الحر وألمه ما هو إلا نفس من نفس جهنم ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا، فأَذِنَ لها بنَفَسين: نفسٍ في الشتاء , ونفسٍ في الصيف, فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم» .
عباد الله: جعل الله –عز وجل- ما في هذه الدار الفانية علاماتٍ وأماراتٍ على ما في الدار الآخرة . والآخرة إما دار نعيم محض لا يشوبه ألم ، أو دار عذاب محض لا يشوبه راحة ، وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم ، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكر بعذاب النار ، وجعل الله في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب الباقية ، ومن ذلك شدة الحر والأماكن والأجسام الحارة ، وقد كان عباد الله الصالحون يعتبرون بذلك قال الحسن البصري ( كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم ، وكل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم ). وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وقال الحافظ ابن رجب (وينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف ، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة ويزاد في حرها ، ولذا ينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يتجنب من الأعمال ما يستوجب به صاحبه دخول النار ، فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر) .
ورأى عمر بن عبد العزيز قوما في جنازة وقد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار ، فأنشد شعرا يقول فيه :
من كان حين تصيب الشمسُ جبهتَه
أو الغبارُ يخاف الشين والشَعَثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشتُه
فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في ظل مقفرةٍ غبراء مظلمةٍ
يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به
يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
أيها المؤمنون:
في شدة الحر وشدة العطش ، حرص الصالحون على الصيام مع صعوبته . مقتدين في ذلك بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، في اليوم الحار شديد الحر ، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. متفق عليه ، وكان معاذ بن جبل –رضي الله عنه – يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر والصيام في الحر الشديد . وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول ( صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور ، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور) .
عباد الله : إذا كان الواحد منا لا يصبر لحظات على حر الشمس وشدتها فكيف بحر جهنم وسمومها ، الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله أهون من الصبر على عذاب الله يوم القيامة، فإنه عذاب لا صبر لأحد عليه ، قال قتادة –رحمه الله – بعد أن ذكر شراب أهل النار قال: هل لكم بهذا يدان؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم ، فأطيعوا الله ورسوله .
فاللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأهلينا وذرياتنا وجميع المسلمين…..
الخطبة الثانية
الحمد لله القوي القهار، مقلب الليل على النهار ، والصلاة والسلام على خير الأبرار وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار أما بعد :
فإن الله عز وجل يدبر هذا الكون بحكمته وعلمه وجعل فيه من الدلائل على قوته وعزته ما يراه أولوا الألباب والأبصار، فقد جاء بضوء ملأ ما بين الخافقين وجعل فيهما معاشا وسراجا وهاجا ، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة ملأت ما بين الخافقين وجعل فيهما سكنا ونجوما وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر والرعد والبرق والصواعق ما شاء ، وإذا شاء صرف ذلك الخلق ، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء أذهب ذلك وجاء بحَرٍّ يأخذ بأنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحاسبهم ويجازيهم ، فإذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة ، فالعبد الصالح يسارع بالتوبة قبل فوات الأوان ، وينيب إلى الرحمن قبل انقضاء الزمان ، وربنا الكريم المنان يحب من عبده التوبة ويجازيه بالغفران . غفور ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء.
عباد الله : العاقل الكيّس من جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، فحمى نفسه وحمى أهله وولده من عذاب النار ، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، اللهم أعذنا ووالدينا وأهلينا وذرياتنا من النار ، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة وما قرب إليه من قول أو عمل، ووالدينا وذرياتنا وأهلينا ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح ووفق ولاة أمورنا ، وانصر جنودنا المرابطين على الحدود والثغور، وفي الداخل والخارج . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر ….
كتبه
د. ماهر بن عبدالرحيم خوجة
عضو هيئة التدريس في كلية أصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية