كلام الأئمة النبلاء في مناظرة أهل البدع والأهواء
عبدالقادر بن محمد الجنيد
كلام الأئمة النبلاء في مناظرة أهل البدع والأهواء
الحمد لله العلي العظيم، البر الكريم، اللطيف الخبير، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الكريم محمد، وعلى جميع النبيين، وآل كل، والصحابة والتابعين.
وبعد أيها القارئ الحصيف:
فهذه وريقات تفيدك بإذن الله تعالى في حكم ما انتشر في أيامنا هذه من المناظرات المسموعة والمرئية مع أهل البدع من الرافضة أو المتصوفة أوغيرهم عبر بعض القنوات الفضائية.
وأرجو من الله أن يرزقك نفع صوابها، وأن يشرح صدرك لها، وأن يزيدك علماً ورشداً، وأن تكون نابهاً، إنه سميع مجيب.
ودونك هؤلاء الأئمة وكلامهم:
أولاً: إمام أهل السنة والحديث أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله.
حيث قال الإمام ابن بطة العكبري ـ رحمه الله ـ في كتابه “الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة”(2/471-472رقم:481تحقيق رضانعسان):
حدثني أبو صالح محمد بن أحمد قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عيسى بن الوليد العكبري قال: حدثني أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل قال: كتب رجلإلى أبي عبد الله رحمه الله كتاباً يستأذنه فيه أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد علىأهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم فكتب إليه أبو عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا [ من سلفنا ] من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك، وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوضمعهم في بدعتهم وضلالتهم، فليتق الله امرؤ، وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غداً من عمل صالح يقدمه لنفسه، ولا يكن ممن يحدث أمراً، فإذا هو خرج منه أراد الحجة، فيحمل نفسه على المحال فيه، وطلب الحجة لما خرج منه بحق أو بباطل، ليزين به بدعته، وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه، فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل، وإن وضح له الحق في غيره، ونسأل الله التوفيق لنا ولك، والسلام عليك.اهـ
وذكر أول هذه الرسالة العلامة ابن مفلح ـ رحمه الله ـ في كتابه “الآداب الشرعية”(1/220تحقيق الأرناءوط) وما بين القوسين زيادة منه.
ثانياً: الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله.
حيث قال في كتابه “الشريعة”(1/451-452تحقيق الدميجي أو1/195-196تحقيق الوليد بن محمد أوص63-64تحقيق عصام موسى هادي):
فإن قال قائل: فإن كان رجل قد علمه الله عز وجل علماً، فجاءه رجل يسأله عن مسألة في الدين، ينازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره حتى تثبت عليه الحجة، ويرد عليه قوله؟
قيل له: هذا الذي نهينا عنه، وهو الذي حذرناه من تقدم من أئمة المسلمين.
فإن قال قائل: فماذا نصنع؟
قيل له: إن كان الذي يسألك مسألته، مسألة مسترشد إلى طريق الحق لا مناظرة، فأرشده بألطف ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين رضي الله عنهم، وإن كان يريد مناظرتك ومجادلتك، فهذا الذي كره لك العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين إن كنت لهم متبعاً.
فإن قال: فندعهم يتكلمون بالباطل، ونسكت عنهم؟
قيل له: سكوتك عنهم، وهجرتك لما تكلموا به، أشد عليهم من مناظرتك لهم، كذا قال من تقدم من السلف الصالح من علماء المسلمين.اهـ
وقال أيضاً (1/454-455تحقيق الدميجي أو1/197- تحقيق الوليد بن محمد أو ص65 تحقيق عصام موسى هادي):
فإن قال قائل: فإن اضطرني الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم؟
قيل له: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل، ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بداً من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً، فأثبت الله تعالى الحق مع أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ومن تابعه إلى يوم القيامة.
وأرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكونأبداً.اهـ
وقال أيضاً (1/461-464 تحقيق الدميجي أو1/201-202 تحقيق الوليد بن محمد أو ص667-68 تحقيق عصام موسى هادي):
فإن قال قائل: هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي ينكرها أهل الحق، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق، وما أشبهه ذلك من الأحكام، هل لنامباح أن نناظر فيه ونجادل، أم هو محظور علينا؟ عرفنا ما يلزم فيه؟ كيف السلامة منه؟
قيل له: هذا الذي ذكرته ما أقل من يسلم من المناظرة فيه، حتى لا يلحقه فيه فتنة ولا مأثم، ولا يظفر فيه الشيطان.
فإن قال: كيف؟
قيل له: هذا قد كثر في الناس جداً، في أهل العلم والفقه في كل بلد، يناظر الرجلُ الرجل يريد مغالبته، ويعلو صوته، والاستظهار عليه بالاحتجاج، فيحمر لذلك وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويعلو صوته، وكل واحد منهما يحب أن يخطئ صاحبه، وهذا المراد من كل واحد منهما خطأ عظيم، لا تحمد عواقبه، ولا تحمده العلماء من العلماء، لأن مرادك أن يخطئ مناظرك: خطأ منك، ومعصية عظيمة، ومراده أن تخطئ: خطأ منه ومعصية، فمتى يسلم الجميع؟
فإن قال قائل: فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة؟
قيل له: هذا كلام ظاهر، وفي الباطن غيره.
وقيل له: إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لتطلب الفائدة كما ذكرت، فإذا كنت أنت حجازياً، والذي يناظرك عراقياً، وبينكما مسألة، تقول أنت: حلال، ويقول هو: بل حرام، فإن كنتما تريدان السلامة، وطلب الفائدة، فقل له: ـ رحمك الله ـ هذه المسألة قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ، فتعال حتى نتناظر فيها مناصحة لا مغالبة، فإن يكن الحق فيها معك اتبعتك، وتركت قولي، وإن يكن الحق معي اتبعتني وتركت قولك، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك، ولا تريد أن أخطئ ولا تغالبني.
فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل، وما أعز هذا في الناس.
فإذا قال كل واحد منهما: لا نطيق هذا، وصدَقَا عن أنفسهما.
قيل لكل واحد منهما: قد عرفت قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم، وأنت فلا ترجع عن قولك، وترى أن خصمك على الخطأ، وقال خصمك كذلك، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة، إذاً كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه، فأنتما آثمان بهذا المراء، وأعاذ الله تعالى العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد.
فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة، فالسكوت أسلم، قد عرفت ما عندك وما عنده، وعرف ما عنده وعندك، والسلام.
ثم لا يؤمن أن يقول لك في مناظرته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتقول له: هذا حديث ضعيف، أو تقول: لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، كل ذلك لترد قوله، وهذا عظيم، وكذلك يقول لك أيضاً، فكل واحد منكما يرد حجة صاحبه بالمجازفة والمغالبة.
وهذا موجود في كثير ممن رأيناه يناظر ويجادل، حتى ربما خرق بعضهم على بعض.
هذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وكرهه العلماء ممنتقدم.اهـ
ثالثاً: الإمام عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري رحمه الله.
حيث قال في كتابه “الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة”(2/540-541رقم:679تحقيق رضا نعسان
فإنقال قائل: قد حذّرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، وقد علمنا أن هذا هوالحق، وأن هذا سبيل العلماء، وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماءالمستبصرين، فإن جاءني رجل يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت، والمذاهبالقبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمسمِني الجواب عليها، وأنامِمَّن قد وهب الله الكريم لي العلم لي علماً بها، بصراًنافذاً في كشفها،أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته، ولا أرد عليه قبيحمقالته؟
فإني أقول له: اعلم يا أخي – رحمك الله – أن الذي تبلى به منأهل الشأن لن يخلوا من أن يكون واحداً من ثلاثة: إما رجلاً قد عرفت حسنطريقته، وجميل مذهبه، ومحبته للسلامة، وقصده طريق الاستقامة، وإنما قد طرق سمعهمن كلام هؤلاء الذين سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم،وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد، يلتمس المخرج مما بليبه والشفاء مما أوذي [ بياض في الأصل ] إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته، وأمنت مخالفته، فهذا الذي افترض عليكتوفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتابوالسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين، وكل ذلك بالحكمةوالموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي، والغوص على دقيقالكلام، فإن ذلك من فعلك بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحق من غيرطريق الحق باطل، وكلامك على السنة من غير السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاءبسقم نفسك، ولا تطلب صلاحه بفسادك، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خيرفيه لنفسه لا خير فيه لغيره، فمن أراد الله وفقه وسدّده، ومن اتقى الله أعانهونصره …
فإذا كان السائللك هذه أوصافه، وجوابك له على النحو الذي قد شرحته، فشأنك به، ولا تأل فيه جهداً، فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاماً في هذا الدين، فهذا أحدالثلاثة.
ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيهحاضر تأمن فيه على نفسك، ويكثر ناصروك ومُعينوك،فيتكلم بكلام فيه فتنة وبليَّةعلى قلوب مستمعيه، ليوقع الشك في القلوب، لأنه هو ممن في قلبه زيغ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه، إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين، وإدخال الشك علىالمستبصرين، فهذا أيضاً مما ترد عليه بدعته، وخبيث مقالته، وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحة إنما يبسطون شباك الشياطين، ليصدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك، وبشر وجهك، وفصيح منطقك عل إخوانك، ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه، وتحول بينهم وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه فافعل…
فهذان رجلان قد عرفتك حالهما، ولخصت لك وجه الكلام لهما.
وثالثٌ مشئوم قد زاغَ قلبه ، وزلَّت عن سبيلالرَّشاد قدمه، فَعشيت بصيرته، واستحكمت للبدعة نصرته، يجهده أن يُشكّك في اليقين، ويفسد عليك صحيح الدين، فجميع الذينرويناه، وكل ما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه، فإنك لن تأتي في باب حصر منهووجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به، لأن غرضه من مناظرتكأن يفتنك فتتبعه، فيملك وييأس منك فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه، فأخسئهبالإمساك عنه، وأذله بالقطيعة له، أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال لهالقائل: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال له الحسن: ” أما أنا فقدأبصرت ديني، فإن كنت قد أضللت دينك، فالتمسه ” وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعضأهل الأهواء، فقال له: ” أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاك، فاذهب إلى شاكمثلك فخاصمه ” فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه، ولاأغيظ لقلبه من مثل هذه الحجةوالجواب.اهـ
رابعاً: الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي رحمه الله.
حيث قال في كتابه “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة”(1/19-20تحقيق أحمد الغامدي أو1/ تحقيق):
فما جني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا ودرداً ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاوصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقرانا وأخدانا وعلى المداهنة خلانا وإخوانا بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا وفي الهجرة في الله أعوانا يكفرونهم في وجوههم عيانا ويلعنونهم جهاراً وشتان ما بين المنزلتين وهيهات ما بين المقامين
نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة ويعصمنا بهما بفضله ورحمته.اهـ
خامساً: الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الأندلسي رحمه الله.
حيث قال في كتابه “الاستذكار”( 8/118تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي):
وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه وهم أهل السنة عن الكف عن الجدالوالمناظرة فيما سبيلهم اعتقاده بالأفئدة مما ليس تحته عمل، وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها، وإنما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام وما كان في سائر