كلمة فضيلة الشيخ عبدالله العبيلان -حفظه الله- عن الخروج على الحكام وعن ليبيا
عبدالله بن صالح العبيلان
كلمة فضيلة الشيخ عبدالله العبيلان -حفظه الله– عن الخروج على الحكام وعن ليبيا
اليوم الثلاثاء 22-2-2011
السؤال: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
ففي يوم الثلاثاء (19/ربيع الأول/1432هـ)؛ توجَّهنا بالسُّؤال التَّالي لفضيلة شيخنا أبي عبد الرحمن عبد الله بن صالح العُبيلان -حفظهُ الله-:
شيخَنا: نظرًا لما يجري مِن أحداثٍ في ليبيا، وما صدر مِن فَتاوى من بعض المنتسِبين للعِلم في جوازِ الخُروج على حاكِم ليبيا بالسِّلاح؛ فإنَّنا نتوجَّه إليكم بالسُّؤال حول صِحَّة هذه الفتاوى، ومصداقيتها مِن كتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلم-.
الجواب:
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوب إليه، ونعوذ باللهِ مِن شرور أنفسِنا، وسيئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي نبيِّنا محمَّد -صلَّى الله عليه وآله وصحبه-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
هذه الفتاوى التي صدرت من بعض أهل العِلم بِجواز الخُروج على حاكِم ليبيا بالسِّلاح؛ لا أعلمُ لها مُستندًا من كتابِ الله، ولا من سنَّة رسوله -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم-.
بل حتى المُظاهَرات التي جعلوها مشروعةً لا أعلم لها مُستندًا مِن كتاب الله، ولا من سنَّة رسوله -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم-.
فإن قيل: إن فيها مصالح؛ بحيث إنه سقط الحُكم في مصر وفي تونس بسبب هذه المُظاهَرات؛ فنقول: إن الله -عزَّ وجلَّ- قد قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَاأَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}؛ فليس كل شيء ترتَّب عليه مصلحة يكون مما يحبُّه الله –عزَّ وجلَّ- ويأمر به.
فكيف إذا كان مآلُ تلك الفتاوى بِجواز أو مشروعية المُظاهَرات -بل أفتى بعضُهم بوُجوب! هذه المُظاهَرات- يُؤدِّي -في الأخير- إلى أن يَحمل الناسُ السِّلاح، أو يَخرجوا بلا سلاح ويُقابلهم الحاكِم بالسِّلاح -ربَّما بأفتك أنواع السِّلاح-!
وها هنا أمور لا بُد من التنبُّه لها ومعرفتها؛ حتى لا يكون الكلام في العِلم فوضى! كل مَن تحمَّس وأثارته بعض المناظر في التلفاز؛ أخذته العاطفة، وتكلَّم بغير عِلم، وكان سبب كلامِه سفك للدِّماء، وإزهاقٌ للأرواح، وانتهاك للأعراض!!
فلو أننا قُلنا -مثلًا-: إنَّ هذا مُنكَر -أي: ما يقوم به، وما يفعله حاكِم ليبيا- أنَّه مُنكر -ونحن لا ريبَ عندنا أنَّه حاكِم ظالِم وفاجِر-..
ولكن: ما هي قواعد إنكار المنكر عند أهل السنَّة والجماعة؟
فأنتَ تحتاج لإنكار المنكر إلى أمورٍ ثلاثة:
الأمر الأوَّل: أن يكون عندك الدليل مِن كتاب الله وسنَّة رسولِه على أن هذا مُنكر.
الأمر الثَّاني: أن تكون الوسيلة لإنكار هذا المنكر؛ وسيلة مشروعة.
الأمر الثَّالث: أن تَنظر في عواقب هذا الإنكار؛ هل المَصالِح التي ستترتَّب عليه أعظم مِن المفاسِد؟ أو أنَّ المفاسد التي قد تَنتج عنه أقل مِن مفاسد المُنكر الذي فعلهُ هذا الحاكِم؟
إذن: ها هُنا أمورٌ ثلاثة؛ لا بُد من العلم بها، ومِن ضبطها.
فأما الأمر الأول: وهو العِلم بأن هذا مُنكر، ويكون مُستَند هذا العِلم مِن كتاب الله وسنَّة رسوله؛ فإن الله -تَبارك وتَعالى- قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} والبصيرة: تشمل العِلم، وهذا العلم يكون بأمور ثلاثة: العِلم بالحُكم، والعِلم بالطَّريقة التي يُنكِر بِها، وثالثًا: العِلم بما يترتَّب على هذا الإنكار مِن أمورٍ.
قد ثبت في “الصَّحيحَين” من حديث أنس: أن أعرابيًّا دخل المسجد، فبال في طائفة المسجد، فزجرهُ النَّاس، فنهاهُم النَّبي -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم-.
هنا: نَهي النَّبي ليس عن إنكار المنكر؛ إنما كان نهي النَّبي عن الوسيلة والطريقة التي أنكر بها أولئك -رضي الله عنهم-الصَّحابة- أنكروا بها على هذا الرَّجل.
والنَّبي والصَّحابة حينما كانوا في مكَّة قال لهم -عزَّ وجلَّ- لهم: {كُفُّوا أَيدِيَكُم}؛ أي: لا تُقاتلوا -مع ما يَلقَونه من الضَّيم، والظُّلم-وربَّما القتل-؛ فإنه لَم يُؤذَن لهم بالقتال؛ لأنهم كانوا قِلة ومستضعفين، ولو قاتلوا الكفار -حينئذٍ-؛ لاستأصلوهم! إذن: لم يكن من الحِكمة أن يُقاتِل النبي، مع أنه لو قاتل وقُتل الصَّحابة؛ كانوا شهداء؛ لكن ليست الغاية –فقط- هي الشَّهادة؛ بل قال -تبارَك وتعالى-: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}؛ والدِّين ما يقوم بمجرَّد القتل -أن نقتل أنفسَنا-؛ الأصل في قيام الدين: هو الدعوة إلى الله -تبَارك وتعالى-.
إذن: هذا أمر؛ ما هو؟ هو أن الإنسان -أولًا- لا يُقدِم على الأمرٍ إلا بدليل، ثانيًا: أن يكون معه الدَّليل من كتاب الله على الوسيلة التي سوف يُنكر بها هذا المنكر.
والنَّبي -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم- اختفى في الغار -هو وأبو بكر-رضيَ الله عنه-، ليس خوفًا على نَفسَيهما؛ وإنما هو خوف على الدَّعوة؛ وإلا: لو ظهر النبي وقاتَل وقاتَلوه؛ فهو شهيد -عليه الصلاة والسلام-، ولكن: خوفًا على الدعوة التي يَحمِلها -صلى الله عليه وسلم- اختفى في الغار، ولم يبرز لقتالهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
واللهُ -سبحانه وتَعالى-ليتبيَّن لك أن الوسيلة لا بُدَّ أن تكون مشروعة، ولو كان الأمر مُنكر، ولا خلاف، ولا نزاع فيه-؛ الله -عز وجلَّ- قد قال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
ومِن هنا: أخذ العلماء أنه إذا ترتَّب على إنكار المنكر منكرٌ أعظم منه؛ فإنه محرَّم ولا يجوز.
وهذا باتِّفاق أهل العلم؛ بل باتِّفاق العُقلاء:
أن إنكار المنكر إذا ترتَّب عليه منكرٌ أعظم منه؛ فإنَّ إنكاره ليس –فقط- أن يكون ما هو مشروع؛ بل هو محرَّم، وفاعله مرتكب لأمر محرَّم، وقد يصل إلى حدِّ الكبيرة من كبائر الذنوب.
نسأل الله السلامة والعافية.
ومِن هنا: جاءت الأحاديث المتواترة في الخوارج؛ لأنهم قد ينكرون المنكر؛ لكن الوسيلة التي يُنكرون بها ليست وسيلةً مستمدَّة من كتاب الله، ولا من سنَّة رسوله -صلى اللهُ عليه وآله وسلم-.
وهنا أمرٌ ينبغي التنبُّه له: وهو أن أمرَ الدِّماء أمرٌ عظيم في الإسلام؛ لا يُؤذن به إلا في أمرٍ واضحٍ بيِّن كالشَّمس في رابعةِ النَّهار؛ أنه جهاد، وأن هذا الجهاد قد اشتمل على الشُّروط والأركان والواجبات التي ينبغيمراعاتُها في الجهاد في سبيل الله.
وإلا: فإن النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم-فيما استفاضَ عنه وتواتَر- نَهى عن الخروج على الحُكام؛ لماذا؟ لأن هذا يُفضي إلى إزهاق الأنفس والأرواح، واستِباحة المحرَّمات؛ بل انتهاك الأعراض.
وقد قال الحسن البصريُّ -عليه رحمةُ الله-: (إنَّ الحجَّاج عذاب الله؛ فلا تدفعوهُ بأيديكم، ولكن عليكم بالاستِكانة والتَّضرع) ثم تلا قولَ الله -تباركَ وتعالى-: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}.
وقال -عليهِ رحمةُ الله-: (واللهِ؛ لو أن النَّاس إذا ابتُلوا مِن قبلِ السُّلطان صَبروا)؛ أي: صبروا وهم أهل دِين، وأهل تقوى؛ ما هو صبروا وهم أهل معاصي وذنوب!
(واللهِ؛ لو أن الناس إذا ابتُلوا من قبلِ السُّلطان صبروا؛ لأوشك الله أن يُفرِّج عنهم؛ ولكنَّهم: يَفزعون إلى السَّيف؛ فيُوكَلُون إليه، وواللهِ؛ ما جاؤوا بيوم خيرٍ -قطُّ-)، ثم تلا قول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَاالَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}.
ولما أنَّ خالد بن الوليد في معركة مؤتة أمام النَّصارى، لما أنه أخذ المسلمين، وأبعدهم عن القتال، لما رأى أنه أمرٌ لا طاقة لهم به، ولا قُدرة لهم عليه، وأبعد جُنود المسلمين، أبعد المجاهِدين؛ عدَّ النبي -صلى اللهُ عليه وسلم– فتح من الله، وأثنى عليه.
وعيسى يقول الله -عزَّ وجلَّ- له -في آخر الزمان- لما تأتي مواجهة بينه وبين يأجوج ومأجوج والدَّجال؛ الله -عز وجلَّ- يقول لعيسى: (حرِّز عبادي إلى الطُّور).
والإمام أحمد؛ لما جاءه -كما في “السُّنَّة” للخلَّال- فُقهاء بغداد، وقالوا: يا أبا عبد الله! قد عَظم الأمر، وتفاقَم الشَّر. قال: فماذا تريدون؟ قالوا: نُشاورك؛ أنا لا نرضى إِمرتَه ولا سُلطانه.
قال: فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال: (اتَّقوا الله، وأنكِروا بقُلوبكم، ولا تَخلَعوا يدًا مِن طاعة، ولا تَشقُّوا عصا المسلمين، وانظروا في عاقبة أمرِكم؛ حتى يَستريحَ بَرٌّ، أو يُستراح مِن فاجِر).
ولما أن عبد الله بن حُذافة، لما كان ملِك الرُّوم أسروا بعضَ المسلمين، وكان منهم عبد الله بن حذافة، وكان قد وضع قدرًا ملأه بالماء، وكل حين يأخذ أحدًا من المسلمين فيضعه في هذا القِدر الذي يغلي، فلما أراد أن يضعَ فيه عبد الله بن حذافة -رضيَ الله عنه- بَكى، فقالوا له: ما يُبكيك؟ خِفت من..؟ قال: لا والله؛ وددتُ أن لي نفسًا أو رُوحًا أخرى فأُقتَل مرَّة أخرى. يعني: محبة للجهاد والاستشهاد في سبيل الله-. قال له الملك: إذا أردتَ أن أطلقكك ومن معك؛ فقبِّلرأسي! فقام عبد الله بن حذافة فقبَّل رأسه؛ فأطلقه!
فلمَّا وفدوا على عُمر -الخليفة الفاروق الذي إذا سلك فجًّا؛ سلك الشَّيطان فجًّا غير فجِّه-، وعلم بالخبر؛ قام وقبَّل رأس عبد الله بن حذافة!!
إذن: صيانة دماء المسلمين والحِفاظ عليها؛ هذا أمرٌ عظيم في الإسلام، ليس أمرًا هيِّنًا، والأدلَّة على ذلك -سواء كان من الكتاب، أو السنَّة، أو مِن السيرة النبويَّة، أو من التَّاريخ- كثيرة، كثيرةٌ جدًّا.
وعليه: فإنَّ هذه الفتاوى التي صدرت -في الحقيقة- هي عارية من العِلم، وعارية مِن الحِكمة.
ومَن أفتى، وتسبَّب في فَتواه في إهدار دمِ مسلمٍ بغير حقٍّ؛ فإنَّه مسؤول بين يدي الله -تَبارك وتَعالى-، وسوف يُسأل عن هذا الدَّم.
ولذلك: جاء في الحديثِ الصَّحيح: (مَن أعان على قتلِ مُسلمٍ ولو بِشَطرِ كلمةٍ؛ فهو كذا وكذا) -لا يحضرني الحديث-كما قال النبي-صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم-.
و -أيضًا- جاء في الحديثِ الآخَر -عند ابنِ حبَّان وغيرِه– في الثَّلاثة الذين تقوم بهم الفتنة؛ قال: (منهم: الخطيب الذي يؤجِّج، ويُثير، ويهيِّج النَّاس)! ثم: ما هي العواقب على مثل هذه الأفعال؟!
فأنا أرى أن هذه الفتاوى فتاوى باطلة، لا مصداقيَّة لها -لا مِن كتاب الله، ولا مِن سُنَّة رسوله-.
وأنصح الإخوة في ليبيا: أن يتجنَّبوا هذه الفتن، وأن يَلزَموا بيوتَهم، وحتى لو اضطروا أن يُصلُّوا الفرائض في بيوتهم.
والعلاج لإزالة ذلك الفاجر: هو أن يَستكينوا إلى ربِّهم، وأن يُصلحوا ما بينهم وبين ربِّهم، وأن يستغيثوا بالله؛ فإن الله -عزَّ وجلَّ- قال: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}.
أسأل الله -تباركَ وتعالى- أن يَحقِن دماء المسلمين، وأن يَكفيهم شرَّ شِرارهم، وأن يكفيَنا شرَّ أولئك الذين يتكلَّمون في العِلم بغيرِ إذنٍ مِن الله، ولا مِن رسولِه -صلَّى الله عليه وسلم-؛ فيتسبَّبوا على المسلمين بإراقة الدِّماء، ويتسبَّبوا على المسلمينبانتهاك الأعراض، وهم جالِسون في بيوتهم، لا ضيرَ عليهم! ولا ضررَ عليهم!! إلا أنهم يتكلَّمون بالباطل وبغير حق!!
وبالله التَّوفيق.
وصلَّى الله وسلم وبارَك على نبيِّنا محمَّد وآلهِ وصحبه أجمعين.