لماذا لم يعتبر علماء الشريعة آراء الفلكيين ؟
علي بن عمر النهدي
بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا لم يعتبر علماء الشريعة آراء الفلكيين ؟
الحمد لله رب العالمين, مالك يوم الدين, الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على من كان بالمؤمنين رؤوف رحيم, وعلى آله وأصحابه ,,, أما بعد :
قال تعالى { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وللأسف يمر هذا التنزيل وما فيه من تحذير وزجر مرور الكرام على كثير من أهل الإسلام, ممن ابتلي بمهنة الإعلام, فيتكلمون في كل شيء وفي أي شيء, وبلا شيء من العلم, أو بشيء مما يحسبونه علم, وهو في الحقيقة معلومات لا ترقىى لئن تكون علمًا في عرف الشرع .
فالعلم : نقيض الجهل, ولكن الجهل نوعان: جهل بسيط وجهل مركب, وللخروج من الجهل لابد من إدراك المجهول على حقيقته المطابقة للواقع, فمجرد الإدراك للمجهول ليس علمًا, والإدراك على غير الحقيقة المطابقة للواقع جهل مركب, وثمة مرتبة أعلى وهي الفقه: وتعريفه الفهم, وهذه المرتبة هي التي تخوّل المتكلم ليتكلم في مسائل الشرع بحسب حاله ناقلًا كان أو مجتهدًا .
وقد ابتلى أهل هذا العصر بالإطلاع, فظنه من ظنه علمًا يسوغ به الكلام والجدال حول مسائل الشرع الحنيف وما يتعلق بعبادات المسلمين, وأصبح الكل يوصي أهل العلم بما يجب عليهم !! , وبما يفترض عليهم !! , وأن عليهم توسيع المدارك, وزيادة الإطلاع, ومعرفة الواقع, وغير ذلك من الهرطقات من جهة صدورها ممن وإلى من ؟؟؟
ولا عجب إن صدر هذا من السفهاء والجهال ولو تسنموا المنابر الإعلامية, ولكن العجب والأسف عندما يصدر مثل هذا ممن يزعم معرفة حق العلم الشرعي وأهله, وممن يدعي المحبة والحدب على العلماء الشرعيين, وممن يصم أذاننا بحكايته لرسوخهم في العلم والحلم والإحاطة – وهم كذلك – ثم يطالبهم بما يدل على قصورهم الشنيع والله المستعان.
فمن ذلك المطالبة المتكررة بالاستفادة من آراء المتخصصين, وترك إهمالها, ويكأنهم لا يفعلون !!!
ومن المعلوم للمطّلعين على أحوال العلماء الراسخين, شدة توقيهم في الفتيا, وحرصهم البالغ على الإطلاع على كل ما من شأنه الإفادة حال الفتيا في جميع المجالات غير الشرعية, ولا يألون جهدًا في مواكبة كل ما يستجد من أخبار ومعلومات لها تعلق بجانب من جوانب فتاواهم المختلفة.
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ما رأي سماحتكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت مشابكة؛ لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟ .
فأجاب رحمه الله بقوله : إن الفتوى يجب أن تستند إلى الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة من أهل العلم كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر. انتهى [نشرت في مجلة الدعوة في العدد (1480) بتاريخ 17 \ 9 \ 1415 هـ.].
فهذا هو الأصل : أن يكون المرد والمرجع هي الادلة الشرعية المستقاة من الوحي المنزل, وأما استشارة المختصين في العلوم الدنيوية بحسب موضوع الفتوى, فهو لا يعدو كونه من جزئيات تصور المسألة المراد الإفتاء فيها, لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره, وهذا حاصل ومعروف عن أهل العلم.
ولكن إيجاب سؤال المختصين في مسائل مستوفاة التصور, لا وجه له ولا اعتبار لسؤالهم حال وجود التصور الكامل للمسألة المراد الإفتاء فيها, ومثال ذلك دخول الشهر وخروجه, فالشريعة علقت ذلك بالرؤية البصرية لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ” لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلال، ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوْه، فإن غُمَّ عليكم فأَكملوا العدة ثلاثين” [أخرجه مالك في الموطأ والنسائي وأبو دواد والترمذي في سننهم] فالمطلوب لتحقيق هذا الحكم الشرعي, الرؤية سواء بالعين المجردة أو بالمكبرات البصرية, وشرط ذلك إثبات عدالة المترائين, وذلك بالطرق الشرعية المرعية في إثبات عدالة الشهود, لأن الرؤية من باب الشهادة, والشهادة في الإسلام تستحل بها الفروج, وتقام بموجبها الحدود, وتقسم بها الأموال, بل وتهرق بها الدماء, فهل دخول الشهر وخروجه أعظم ممن سبق ؟
فإقحام الفلكيين لأنفسهم في موضوع دخول الشهر وخروجه, من الافتئات على الشريعة, لأن الشريعة لم تطلب إلا الرؤية, وجعلت لها بدلًا عند تعذرها – سواء بعدم الرؤية أو لعدم الرائي العدل – والبدل هو إتمام الشهر وهذا من سماحة الإسلام ويسره, ولم توص بالحساب لا ابتداءً ولا عند التعذر, بل زادت على ذلك بالتوجيه بعدم الاعتداد بالحساب فقال عليه الصلاة والسلام : ” إِنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لا نكتُب، ولا نَحْسُب، الشهر هكذا، وهكذا – يعني مرة: تسعاً وعشرين، ومرة ثلاثين” .[أخرجه البخاري في الصحيح]
فالشريعة كاملة وهي خالدة, ليقوى على امتثال أحكامها الحضر والبدو, وأهل المدن والقرى, والعالم والجاهل, والحر والعبد, والذكر والأنثى, فمن المضادة للشريعة اشتراط اليقين المزعوم عند الفلكيين, والشريعة وجهتنا للعمل بالظن الغالب المتمثل في رؤية العدول, وقد أغلقت شريعة ربي الباب على المتنطعين والمشككين بأن قال عليه الصلاة والسلام رافعًا الحرج : ” الصومُ يومَ تصومون، والفِطْرُ يومَ تُفْطِرونَ، والأضحى يوم تُضَحُّون “.[أخرجه الترمذي في سننه] قال الخطابي : معنى الحديث : أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعاً وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماضٍ، ولا شيء عليهم من وزر أو عيب … وإنما هذا رفق من الله ولطف بعباده.انتهى [عن جامع الاصول (6/279)].
وقال عليه الصلاة والسلام : ” شهرَا عيد لا ينقصان: رمضانُ، وذو الحِجَّةِ “. [متفق عليه] والمعنى أنهما كاملان في الأجر على أي حال ولو كان الشهر ناقصًا.
فهل بعد هذا إلا التنطع ومعاندة الشريعة, وهذا ما حدا بأهل العلم الراسخين التشديد على هؤلاء القوم, والتغليط في الإنكار عليهم, وترك الالتفات إلى آراءهم, لعدم الحاجة إليها شرعًا, ولمضادتهم للسنة المطهرة الميسرة للعباد شؤون عباداتهم.
قالت اللجنة الدائمة في تعليل عدم الحاجة لآراء الفلكيين في هذا الباب ما نصه : ” أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم ومع ذلك قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها؛ فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه” .انتهى [عبد الله بن قعود // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز].
قال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية في خطبة الجمعة : ” أن هناك من يريد أن يسلب العمل بسنة المصطفى ويعتمد على آراء حسابات فلكية متناقضة ومضطربة لا يمكن الاعتماد عليها أو ضبطها فكيف نرضى بآرائهم ونترك سنة نبينا الواضحة التي لا غموض فيها … أن هناك أقلامًا جائرة وألسنة بذيئة تشكك في دين الله يجب إخراسها فنحن في صيامنا وإفطارنا وافقنا سنة رسول الله النبي ونحن مع قيادتنا الحكيمة سائرون على النهج القويم الصحيح امتثالا بما أمرنا الله ورسوله … أن العمل بالرؤية الشرعية واضح لكن هؤلاء المشككون يريدون أن يفرضوا آراءهم وهم ما بين جاهل أو في قلبه مرض، مشيرا إلى أن آراء الفلكيين المخالفة لا اعتبار لها ولا يمكن لمسلم أن يترك سنة جلية واضحة لآراء باطلة لا تقوم على حق فسنة نبينا أوضحت أن نصوم ونفطر لرؤية الهلال وهو ما عليه العمل في بلادنا “.انتهى[سبق الألكترونية/03-09-2011] .
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء : ” والفرقة الثالثة يسمون أنفسهم بالفلكيين يشككون الناس في بداية شهر رمضان، كما يحصل الآن من متعالمينا في بداية رمضان ونهايته إذا أخذ المسلمون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية: (فأكملوا ثلاثين يوماً) فإذا عمل المسلمون بهذا الحديث وأمثاله فأعلنوا الصيام والافطار بناء على الرؤية البصرية سواء من فرد أو من أفراد، شنع بعض هؤلاء الفلكيين بحملة شعواء بتخطئة المسلمين في صيامهم وفطرهم، لأنهم خالفوا نظريتهم أن الهلال لا تمكن رؤيته عندهم فهم يحكمون على الغيب ويرون العصمة لنظريتهم السابية.
يا إخوان قد سبقكم فلكيون متخصصون على مختلف الأزمنة، ولا ذكر أنهم يعارضون الرؤية البصرية ويشككون فيها وهم أحذق منكم في علم الحساب الفلكي، فلماذا تشوشون على الناس في ذلك وتكذبون المحسوس وقد قال الشاعر: ما راء كمن سمعا، وفي المثل ليس الخبر كالعيان، لقد صام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على رؤية شخص واحد كما في الحديث ابن عمر وحديث الأعرابي، وأفطر وأمر الناس بالإفطار بناء على رؤيته الأعراب، وقال (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ولم يقل على حساب الفلك بل علق الحكم بأمر ظاهر وهذا من تيسير الله على عبادة، ولئن زعمتم أن الرائي يخطأ في رؤيته أو يرى جرما غير الهلال كما زعمتم فبإمكان كل أحد أن يخطئكم في حسابكم، لا لأن الفلك يحصل فيه أخطاء أو خلل بل لأن حسابكم هو الذي يحصل فيه الخطأ والخلل لأنه عمل بشري بديل أن بعضكم يخالف بعضًا، كما حصل هذه السنة (ولو كان من عند الله غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).” . انتهى [الموقع الشخصي للشيخ بعنوان (المشككون في العبادات ومواقيتها) بتاريخ 8-10-1432 هـ].
فالنصيحة لمن يملي بجهله على أهل العلم كذا وكذا, أن يتقي الله ويعرف أنه يتكلم أولًا بدون علم, ويسيء الأدب ثانيًا مع الراسخين في العلم, ويشكك الناس ثالثًا في علماءهم, وكل واحدة من الثلاث لعمر الله عظيمة من العظائم, تستوجب التوبة والاستغفار, والله يغفر لي ولهم ويعفو عن الجميع, والله أعلم
أبو طارق علي بن عمر النهدي
19 شوال 1432 للهجرة النبوية على صاحبها أتم الصلاة والسلام.