معاملة الله للعاصي بنقيض قصده
حمد بن عبدالعزيز العتيق
( معاملة الله للعاصي بنقيض قصده )
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، أما بعد:
إن أحسن الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أما بعد أيها الناس ، أمرنا الله –عز وجل- بطاعته ، ورتب على ذلك أنواع الأجر والثواب ، ونهانا –سبحانه وتعالى- عن معصيته ورتب على ذلك أنواعًا من العذاب والعقاب ، ومن ذلك يا عباد الله أن الله تعالى جعل من ثواب الطاعة ما هو مُعجّل في الدنيا ، وجعل من عقوبة المعصية ما هو مُعجّل في الدنيا ، فإن بعض النفوس البشرية تهتم بالعاجل أكثر من الآجل ، فرغّبهم الله –عز وجل- في العاجل ورهّبهم فيها قبل الآجل .
ومن ذلك يا عباد الله : أن الله عز وجل جعل من ثواب المطيع لله –تعالى- أن يُعامله بأحسن مما يتوقع الناس ، وبأحسن مما اعتاد عليه الناس ، وكان من عقوبة الله –عز وجل- العاجلة للعاصي أن الله يُعامله بنقيض قصده ، وأن الله يعامله بعكس مراده تمامًا .
أجر للمطيع ، وعقوبة للعاصي ، كلها معجلة في الدنيا قبل الآخرة ، وبالمثال يا عباد الله يتضح المقال :
أمرنا الله –عز وجل- بحق واجب في المال ، الزكاة ، والنفقة الواجبة للزوجة والأولاد وللوالدين ، ومن يعوله الرجل ، هذه نفقة واجبة على المسلم ، لا يجوز له أن يتأخر عنها أو أن يقصر فيها ، فانظروا كيف يعامل الله –عز وجل- عبده المطيع ، وكيف يعامل الله عبده العاصي ؟
لقد اعتاد الناس أن الإنسان كلما يُنفق من ماله فإن المال ينقص ، هذه سنة كونية وقاعدة طبيعية ، أن المال كلما تأخذ منه فإنه ينقص ، وإذا تركت الإنفاق منه فإنه يزيد ، لكن انظروا كيف يُعامل الله –عز وجل- من يُطيعه في إخراج المال الواجب ، ومن يعصيه فيمتنع عن ذلك ؟
حينما ينفق الإنسان النفقة الواجبة على زوجته أو أولاده أو والديه أو يخرج الزكاة ، هل ينقص المال ؟
اسمعوا ماذا قال الله تعالى ، { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} تخرج المال ، فيظن الناس أن المال سينقص ، فإذا أخرجته لله يعاملك الله بأحسن مما اعتاد عليه الناس وبأحسن مما يتوقعه الناس ، بدل أن ينقص المال فإن المال يزيد ويتضاعف .
في صحيح مسلم يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- : «ما نقص مال من صدقة» ، الله أكبر! ، ما نقص مال من صدقة! ، الصدقة لا تُنقص المال ، بل إن الصدقة والزكاة تزيد المال وتنميه وتبارك فيه ، لذلك سمى الله –تعالى- الحق الواجب في المال الذي يُخرج للفقراء ، ماذا سماه الله؟ سماه الله –تعالى- “زكاةً” ، والزكاة عند العرب هي الزيادة والنماء .
فالله –عز وجل- يعامل عبده المطيع الذي يُخرج الحق الواجب في المال بأحسن مما اعتاد عليه الناس ، وبأحسن مما يتوقع الناس .
وأما العاصي ، الذي يُمسك الحق الواجب في المال ، لا يُخرجه زكاته ، ولا يُنفق النفقة الواجبة على من يعولهم ، ماذا يريد هذا المسكين؟ يظن أنه بذلك يزيد ماله ، فماذا يفعل الله به؟ يُعامله الله بنقيض قصده ، وعكس مراده تمامًا .
قال الله –تعالى- في قصة أصحاب البستان لما أقسموا أن لا يُعطوا الفقراء والمساكين شيئًا من هذا البستان ، تقاسموا بينهم وأقسموا : {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}، قالوا: لن نعطي أحد من ثمرة هذا البستان ، ماذا يريدون؟ يريدون أن يزيد مالهم ، فما الذي حدث يا عباد الله؟ عاملهم الله بنقيض قصدهم ، قال الله –تعالى- : {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَفَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، أهلكها الله –تعالى- ، فعاملهم الله بنقيض قصدهم .
قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ولله ملكان يقولان: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا» المنفق في سبيل الله: «اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا» ، «وأعطِ ممسكًا .. » الذي يمسك المال ولا يُخرج الحق الواجب فإن الله يُتلف ماله ، لأن الله يعامله بنقيض قصده .
«اللهم أعط منفقًا خلفًا ، وأعط ممسكًا تلفًا» ، والتلف قد يكون تلفًا ماديًا محسوسًا ، بأن يُصاب المال بجائحة ، بالحرق أو الغرق أو انهيار للأسهم ، أو غير ذلك ، وهذا تلف ماديٌ محسوس .
وقد يكون التلف تلف معنويًا ، يبقى المال لكن الله ينزع ويمحق بركته –والعياذ بالله- ، فبدل أن يتنعم الإنسان بالمال يكون المال عليه عذابًا وحسرة وعقوبة في الدنيا قبل الآخرة .
نعم ، ليس كل صاحب مال يتنعم بماله ، لا ، ربما كان المال مع كثرته عذابًا على صاحبه ، وهذا هو التلف المعنوي يا عباد الله ، قال الله –عز وجل- : {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } ، إذا رأيت صاحب المعصية الذي يمنع حق الله في المال ، أو يصرف المال فيما حرم الله ، فلا تُعجب بما عنده من مال ، ولا تغتر بكثرة أموالهم ، لماذا؟ {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، اسمع يا عبد الله ماذا يقول الله ، {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} ، ملايين وأموال ، وجاه ، لماذا؟ لأنهم أخذوها مما حرم الله أو منعوا حق الله أو أنفقوها فيما حرم الله ، {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، نسأل الله العافية .
كم من إنسان كان ماله حسرة ووبالًا عليه في الدنيا قبل الآخرة؟
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه ، ولا تلبسهما علينا فنضل ونشقى ، يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلمًا كثيرًا ، أما بعد:
أيها الناس ، هو ثواب وعقاب ، أما الثواب فإن الله يُعامل عبده المطيع بأحسن مما يتوقع الناس وبأحسن مما اعتاد عليه الناس ، وأما العاصي فإن الله يعامله بنقيض قصده .
من ذلك يا عباد الله : أن الله تعالى أمر العباد بأن يتواضعوا ، وأن لا يتكبروا على عباد الله –تعالى- ، فيظن بعض الناس أن التواضع يُنقص قدر الإنسان ، وأن الكِبر –والعياذ بالله- يرفعه على الناس وعنهم ، فانظروا كيف يعامل الله عبده المتواضع؟ وكيف يُعامل الله المتكبر؟
في صحيح مسلم يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- : «من تواضع لله رفعه» ، الذي يتواضع للفقراء والمساكين والعمال ومن هم أقل منه رتبة ووظيفة ونسبًا وحسبًا وجمالًا ومالًا ، لا يظن أنه بذلك ينزل قدره ، لا ، «من تواضع لله رفعه» ، يُعامله الله بأحسن مما يتوقع الناس ، يتوقع الناس أن الذي يأكل ويشرب مع الفقراء أنه أنزل نفسه ، أن الذي يصادق ويؤاخي من هو أقل منه نسبًا أنه قد أنزل قدره ، لكن الله –عز وجل- يعامله بأحسن مما يتوقع هؤلاء ، فيرفعه الله بتواضعه .
أما المتكبر ، الذي يترفع عن الناس ، يحتقر الناس ، بماله ، بوظيفته ، بنسبه وحسبه ، بجماله ، بلونه ، بعرقه ، ببلده ، وأسباب الكبر في الناس كثيرة ، -نسأل الله العافية- .
هذا الذي يتكبر ماذا يريد؟ يعتقد حين يتكبّر أنه يرتفع عن الناس وعليهم ، فانظروا كيف يُعامله الله –تعالى- ؟
قال –صلى الله عليه وسلم- في صحيح ابن حبان: «ومن يتكبر» هو ماذا يريد؟ يريد الارتفاع عن الناس ، «ومن يتكبر يضعه الله » ، يذله الله في الدنيا قبل الآخرة .
وهذا الذل قد يكون بسبب من هو أظلم منه ، وقد يُذله الله لزوجته ، وقد يُذله الله لولده ، ورأيتم من الجبابرة من أذله الله حتى جُرّ في الشوارع! –نسأل الله السلامة والعافية- .
لأن الله يعامل العاصي بنقيض قصده ، ويُعامل عبده المطيع بأحسن مما يتوقع الناس .
ومن ذلك وأختم به أيها الإخوة ، الله –عز وجل- أمرنا بالمحافظة على أوامره ، من صلاة وصيام وذكر ، وترك لما حرم الله من أكل ونظر وسماع ، فيعتقد كثير من الناس أن الإنسان المستقيم على طاعة الله أنه في هم وغم ، أنه في عقد نفسية ، وتسمع من يقول: هؤلاء المطاوعة معقدّين ، ما تشوفهم إلا ضائقة صدورهم ، فهل هذا الأمر صحيح؟
هل ما يتوقعه هؤلاء أن ترك النظر إلى ما حرم الله عبر تقريب القنوات أو سماع ما حرم الله عبر الإذاعات ، أو أكل ما حرم الله بالمساهمات المحرمة والبنوك الربوية ، هل هذا يجعل الإنسان حزينًا تعيسًا معقدًا؟ لا وربي ، لا والله الذي لا إله غيره ، إن الذي يستقيم على طاعة الله يسعد بحسب استقامته ، قال الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لن يكون معقدًا أو حزينًا كما يتوقع أولئك ، { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } هذا في الدنيا ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وهذا في الآخرة .
وقال –سبحانه- : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ، وقال الله –عز وجل- ممتنًا لأعظم الصالحين وسيد المرسلين نبينا محمد –عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- ، قال الله تعالى: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } انشراح الصدر ، الطمأنينة ، السعادة ، كيف كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ؟ هل كان يعيش عيشة الملوك؟ لا ، تقول عائشة كما في الصحيح: كان يمر علينا الشهر والشهران وما أوقد في بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على طعام .
كان يربط الحجرين على بطنه من الجوع .
كان ينام على الحصير حتى يُؤثر في جنبه .
كان يُوعك كما يوعك الرجلان منا .
سحره اليهود ، ورماه بعض الناس في عرضه –عليه الصلاة والسلام- .
قتل أصحابه بين يديه .
دفن أولاده –عليه الصلاة والسلام- بيديه .
ومع ذلك يقول الله له : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }، لأن السعادة والرضى والطمأنينة وطيب العيش إنما هو في طاعة الله ، فيعامل الله عبده المطيع بأحسن مما يتوقع الناس .
أما العاصي الذي يبحث عن السعادة في المعصية ، يقلب القنوات بحثًا عن العورات ، يفتح الإذاعات ليسمع المغنين والمغنيات ، يودع أمواله في البنوك ليتقاضى الربا ، يفتح دكانه فيغش المسلمين ويضحك عليهم ، يظن أن هذا من الدهاء والذكاء ، تقول لهؤلاء جميعًا: لماذا تفعلون ذلك؟ لماذا تعصون الله؟ تجدهم جميعًا يبحثون عن السعادة في الدنيا ، يسمع الحرام ويأكل الحرام وينظر للحرام ، يقول : أبي أوسع صدري ، أبي أعيش مثل الناس أجمع قرشين ، وأبني بيت وأكون مبسوط بالغش والروشة والربا ، يظن أن في ذلك السعادة .
فكيف يعامله الله؟ يعامله الله بنقيض قصده ، قال الله –تعالى- : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} ، من أعرض عن طاعة الله إلى معصية الله يريد السعادة ، ماذا سيحصل؟ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا }، انظر اللفظ ، صعوبة لفظه تدل على صعوبة معناه ، { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } هذا في الدنيا ، وفي الآخرة : {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} .
انظر كيف يعامل الله عبده العاصي بنقيض قصده وعكس مراده ، وأما المطيق فإن الله يعامله بأحسن مما يتوقع الناس وبأحسن مما اعتاد عليه الناس .
فالخلاصة أن من أراد الخير في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله ، ومن أراد خلاف ذلك فليعلم أن فيها معصية الله –عزو جل- .
في بعض الآثار: إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فأجملوا في الطلب ، إذا أردت شيء اسلك السبل والطرق المشروعة الجميلة التي أحلها الله وشرعها .
واعلموا أنه لا يُنال ما عند الله بمعصية الله .
اللهم تب علينا توبة نصوحة ، وردنا إليك ردًا جميلًا ، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه ، ولا تلبسهما علينا فنضل ونشقى ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .