مفاسد المظاهرات
د. محمد بن أحمد الفيفي
مفاسد المظاهرات
أما بعد: فاعلم ـ رحمني الله وإياك ـ أن هناك أمورا كثيرة قد حدثت في زمننا هذا، ليست من شرع الله في شيء، وإنما يتعلق بها أناس يجهل الكثير منهم أو يتجاهل نصوص الشرع، وآثار السلف في النهي عن المحدثات في الدين، ويعظم الخطب حينما تنسب هذه الأمور المحدثة إلى دين الله ـ عز وجل ـ، كما يفعله بعض الناس ممن يفتي في القنوات الفضائية، مخالفين بذلك هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حيث لا يشعرون.
ومن هذه الأمور المستحدثة في دين الله “المظاهرات”، حيث أصبحت ظاهرة مشهودة في كثير من بلاد المسلمين إلا ما ندر، ورغم مصادمتها للنصوص الشرعية وصدور الفتاوى في تحريمها من قبل كبار أهل العلم المعتبرين، إلا أن أكثر الناس لا يعلمون.
ولا يشك أحد أن المظاهرات قد دخلت على المسلمين من الخارج، حيث تنتشر الأحزاب والمنظمات التي تتخذ من المظاهرات وسيلة لإبراز مطالبها السياسية ونحوها واتخاذها كوسيلة ضغط على حكومات تلك الدول. والمظاهرات في الغرب تعد من وسائل التنفيس والرد على الحكومات، إذ إن كل من لا يستطيع إيصال صوته عبر الوسائل الرسمية يلجأ إلى المظاهرات.
وقد أُعجب بهذه المظاهرات كأسلوب من أساليب الضغط على الحكومات، كثيرٌ من الأحزاب والحركات المحدثة سواء كانت أحزابا سياسية أو علمانية أو ما يسمى بالجماعات (الإسلامية)، ولم يبحث أحد من أولئك في كونها مخالفة للشرع أم لا، بل كانت المطامع والأهداف الحركية والحزبية طاغية بما لا مجال معه عند هؤلاء للتوقف والبحث في مشروعيتها من عدمه.
وإنما قالوا: إن فيها من المصالح وإظهار الحق، وإنكار المنكر، والتعبير عن الرأي الصحيح، وإظهار قوة الدين، وإحياء الوحدة الإسلامية، وغيرها من المصالح.
وما زعموا من المصالح لا يسوّغ المظاهرات :
أولا: لأنه تخمين، وظن ضعيف، والواقع يشهد بخلاف ما ذكر، فهل منعت المظاهرات في العالم كله أمريكا من أن تعتدى على العراق، أم هل ألغت المظاهرات والمسيرات قرار منع الحجاب في فرنسا ؟؟
ثانيا:إن المفاسد المترتبة على المظاهرات أعظم وأكبر من هذه المصالح المزعومة،ومن المتقرر أنه إذا تساوت المصالح والمفاسد فان(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فكيف والمفاسد أكثر وأكبر
بل يزعمون أنها هي الطريقة الوحيدة المؤثرة في إيصال صوت الحق للناس في الداخل والخارج.
فيقال:إن هذا غير صحيح، فوسائل الاتصال والإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة قد انفتحت انفتاحا كبيرا جدا، وإن كان هذا الانفتاح غير محمود من جميع الجهات، ويستطيع المسلم أن يدلي بصوته ورأيه مادام مأطورا بإطار الشرع الحنيف، وللأسف أن أكثر من يتحدث باسم الدين في وسائل الإعلام اليوم أناس لا يُعرفون بالتجرد في اتباع الحق والدليل، بل كثير منهم ـ إلا من رحم الله ـ ذو توجهات مشبوهة.
أيها المسلمون:إن المتأمل لما يحدث من جراء هذه المظاهرات ليدرك بوضوح مخالفتها للشرع، وكونها دائرة بين التشبه بالكفار، وبين البدعة والإحداث في الدين وكفى والله بهذا مفسدة تمنع المسلم من ارتكاب هذا الأمر المشين :
فمن مفاسدها: مجانبتها السكينة والرفق الذي أُمرنا به: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله” متفق عليه. وقال “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه” رواه مسلم.
ومن ذلك: تلكم الشعارات القبيحة التي يرددها بعض المتظاهرين والكلمات النابية والسباب والشتائم كلها تخالف هدي الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاحشا ولا متفحشا وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا” متفق عليه. وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء” أخرجه الترمذي.
ولا تقف المفاسد من هذه المظاهرات عند هذا الحد، بل تتعدى هذا كله إلى :
ـ ما يضيع من أموال وأوقات في سبيل إقامة المظاهرة، وجمع أكبر حشد لها وإهدار مقدرات الأمة فيما لا طائل تحته وتعطيل الوظائف والمصالح.
ـونشر الهلع والخوف بين عامة الناس وإزعاج السلطات والآمنين، وإشغال رجال الأمن عما هو أهم من حراسة المنشآت وحماية ثغور المسلمين.
ـفضلاً عن تربص أهل الشر وفتح الباب لهم للإفساد من خلال تلك المظاهرات.
ـ وكذلك إخراج النساء من خدورهن وبيوتهن إلى الشوارع في تلك المظاهرات ، ولا تسلني عما يحدث لكثير منهن في مثل هذا الخروج من أمور لا تحمد عقباها من التحرش والاختلاط وهتك الأعراض.
ـ ومن المفاسد : زهد الناس في الوسائل المشروعة وانصرافهم عنها إلى المحدثات فيتحقق قول ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ما أحدثت بدعة إلا وأميتت سنة، وصدق رضي الله عنه، وذلك أن في استخدام المظاهرات تعطيل للنصوص الشرعية الآمرة بالصبر والنصيحة بالطرق الشرعية
ومن تلكم المفاسد: الصورة التي يظهر بها هؤلاء المتظاهرون من زمجرة وغضب ورفع صوت وصياح وجلبة مما لا يشك أحد في مجانبته سمت المسلم الذي أمر به الشرع المطهر، بل رأينا من ضاهى القرود في صعوده على الأشجار وأعمدة الكهرباء وقيامه بخلع ملابسه، وإصداره صيحات يضحك منها العامي ويحمد العاقل ربه أنه لم يبتله بما ابتلى به هذا.
ـ ومن تلكم المفاسد :خروج المسلم واليهودي والنصراني والعلماني والرافضي والشيوعي متماسكين يعضد بعضهم بعضا، يصرخون بصوت واحد، فإن كان هذا ليس مما يخدش مظاهر الولاء والبراء عند المسلم، فأي شيء يسمى هذا التعاضد والتكاتف؟ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم يقول”الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف” أخرجه مسلم.
ـ ومن تلكم المفاسد: قيام أهل الثورات والشغب بإفساد المنشآت وتحطيم السيارات والسرقة وغيرها من الإفساد المصاحب للمظاهرة.
ـ وعندما تستعر حمى الغضب في صدور المتظاهرين فلا تسل عن كثرة من يُدفع أو يوطأ بالأقدام بل وقد يقتله المتظاهرون تحت أقدامهم خلال المظاهرة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما” أخرجه البخاري .
ـ فياسعادة الكفار وأهل البدع برؤية بلاد المسلمين وقد هاجت فيها الفتنة وماجت وفرحهم بما يقع بين المسلمين من الشرور المترتبة على المظاهرات ، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يردهم إليه رداً جميلاً وأن يكفيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن،أقول ما تسمعون وأستغفر…
الخطبة الثانية
أما بعد:فقد تصدى العلماء الربانيون لمثل هذه النوازل والوقائع من المظاهرات وما يصاحبها من المفاسد والفتن حيث قال سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى:”فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيء العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله أو إثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات ويلحق بهذا الباب ما يفعله بعض الناس من المظاهرات التي تسبب شرا عظيما على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبات بالتي هي أحسن فتنصح الرئيس، والأمير وشيخ القبيلة بهذه الطريقة، لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث في مكة 13 سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم، ولا شك أن هذا الأسلوب يضر بالدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن ” أ. هـ مجلة “البحوث الإسلامية” العدد 38 ص 210.
وسئل ـ رحمه الله ـ هل المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها يعتبر شهيدا في سبيل الله؟
فأجاب ـ رحمه الله تعالى “لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج ولكنها من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور ومن أسباب ظلم بعض الناس والتعدي على بعض الناس بغير حق. ولكن الأسباب الشرعية المكاتبة والنصيحة والدعوة إلى الخير بالطرق السلمية، هكذا سلك أهل العلم وهكذا أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباعهم بإحسان، بالمكاتبة والمشافهة مع المخطئين ومع الأمير والسلطان، بالاتصال به ومناصحته والمكاتبة له دون التشهير في المنابر وغيرها بأنه فعل كذا وصار منه كذا، والله المستعان” نقلا عن شريط بعنوان مقتطفات من أقوال العلماء.
ورد سماحته على من استدل على جواز المظاهرات ـ بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج بعد إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ على رأس صَفَّين من أصحابه، وعلى الأول منهما عمر ـ رضي الله عنه ـ وعلى الثاني حمزة ـ رضي الله عنه ـ رغبة في إظهار قوة المسلمين، فعلمت قريش أن لهم منعة.(الحلية لأبي نعيم 1/40)، (الإصابة لابن حجر 2/512 ونسبه لمحمد بن عثمان في تاريخه)، (الفتح لابن حجر 7/59 ونسبه إلى البزار) حيث قال رحمه الله”وما ذكرتم حول المظاهرة فقد فهمته وعلمت ضعف سند الرواية بذلك كما ذكرتم، لأن مدارها على إسحاق ابن أبي فروة وهو لا يحتج به، ولو صحت الرواية فإن هذا أول الإسلام قبل الهجرة وقبل كمال الشريعة. ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة .. وأما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات التي قد يدعو إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء. فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام وليس له تعلق بالمظاهرات كما لا يخفى” فتاوى ومقالات الجزء الثاني 240.
وسئل العلامة العثيمين رحمه الله : هل تعتبر المظاهرات وسيلة من وسائل الدعوة الشرعية؟
فقال: فإن المظاهرات أمر حادث، لم يكن معروفا في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ، ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمرا ممنوعا حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها. ويحصل فيه أيضا اختلاط الرجال بالنساء والشباب بالشيوخ وما أشبه من المفاسد والمنكرات، وأما مسألة الضغط على الحكومة فهي إن كانت مسلمة فيكفيها واعظا كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا خير ما يعرض على المسلم، وإن كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء المتظاهرين وسوف تجاملهم ظاهرا وهي ما هي عليه من الشر في الباطن، لذلك نرى أن المظاهرات أمر منكر.
وأما قولهم إن هذه المظاهرات سلمية فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية، وأنصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أثنى على المهاجرين والأنصار وأثنى على الذين اتبعوهم بإحسان” انظر: “الجواب الأبهر” لفؤاد سراج ـ ص 75.
وسئل الشيخ صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ هل من وسائل الدعوة القيام بالمظاهرات لحل مشاكل الأمة الإسلامية؟ الجواب: ديننا ليس دين فوضى، ديننا دين انضباط، دين نظام ودين سكينة، المظاهرات ليست من أعمال المسلمين وما كان المسلمون يعرفونها، ودين الإسلام دين هدوء ودين رحمة لا فوضى فيه، ولا تشويش ولا إثارة فتن، هذا هو دين الإسلام ، والحقوق يُتوصل إليها دون هذه الطريقة بالمطالبة الشرعية والطرق الشرعية، هذه المظاهرات تحدث فتناً، وتحدث سفك دماء وتحدث تخريب أموال فلا تجوز هذه الأمور” أ. هـ الإجابات المهمة في المشاكل الملمة”
محمد بن أحمد الفيفي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية الدعوة والإعلام