منائح القرائح فيما يُشرع للمسلم عند نزول الجوائح
محمد بن علي الجوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
أما بعد
المفتاح الموصل إلى مقام التعبّد في هذا الباب، والمدرجة المُفضية لأول منزلة من منازل التفكر والاعتبار، انزعاج القلب من حصد هذا الوباء للأنفس، وعِظم انتشاره في البلدان، وإخافته للآمنين، وترويعه للمطمئنين في كلّ مكان.
فليس أحدٌ في مأمنٍ من فتكه وعطبه، مهما كان عمُره، ومهما كانت صحّتهُ وقوّته، فكلُّ أحد مُعرّض لطعنته، ولا أحد يستطيع الفكاك من قبضته، إلا أن يحوطهُ الله بحفظه، ويكلأه برعايته، ويقيه من التعرّض لآفته المُتلفة للأنفس، والمهلكة للأرواح.
فلهول هذا الحدث، وشدّة وطأته على النفوس، وعِظم وقع أخباره ومستجدّاته على القلوب، على العبد أن يقابل ذلك كلّه بالاستيقاظ من رقدته، وأن يُعجّل بالصّحو من سكرته، وأن لا يُديم الغفلة مع الغافلين، والبقاء في السفاهة والجهالة مع الجاهلين.
فإذا وفّقهُ الله لمشاهدة الواقع بعين البصيرة، وفْقَ النواميس الكونيّة، والأحكام القدريّة الجارية على الخلق كلّهم مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، غنيّهم وفقيرهم، فلينتبه عند ذلك من تكاسله وتهاونه، وليُشمّر إلى الله بهمّته، إيقانا بتوحيده، وتمسّكا بسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقبالا على طاعته، وصدقا في التّوبة إليه، ولياذا بجنابه، وخلاصا من الذنوب التي أسرته، وقيّدته بأغلالها، ومزّقته بأنيابها، كما أمر الله تعالى بالمبادرة إلى التوبة النّصوح فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا }.
وقال سبحانه: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
وأن يتأمّل في حقيقة الدنيا، وتغيّر أحوالها، وتصرُّم أيامها، وسرعة انقضائها، ومكابدة أهلها لمنغّصاتها، ومعاناتهم لتباريحها وآلامها، فيقوم عند ذلك بقلبهِ شاهدٌ من شواهد التعبّد، ومنزلة عظيمة من منازل السّير إلى الله، يرى بها الآخرة ودوامها، ونعيمها، وجنانها، والسعادة الغامرة التي تنتاب أهلها، وعظيم أُنسهم والتذاذهم بالخلود فيها، ويلحظ الدنيا وسرعة انقضائها، ودنوّ الآجال فيها، فكلّ سعة وانبساط فيها صائر إلى ضيق واضمحلال، وكلّ نعيم يُطيف بالعبد مآلهُ إلى فناء وزوال، كما قال سبحانه وتعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، وقال جل شأنه: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّه خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }.
وأن يعلم العبد أنّ الأمر كلّه بيد الله، يُصرّف الأمور، ويقلّبها كيف يشاء، بحكمته وعدله ورحمته، فالله بصير بما يجري في هذا الكون، لا يخفى عليه من أمره شيء، سميع لأصواتهم ومناجاتهم، رقيب على ضمائرهم وأسرارهم، حياتهم وموتهم بيده، صحّتهم ومرضهم طوع تدبيره، لا يخرجون عن أمره، ولا يفتاتون على قدره وقضائه، فصرّف لهم الآيات، ونوّع لهم في هذه النازلة الدلالات، فمن كان ذا حصافة وعقل، بادر الى الرجوع الى الله، والإخبات اليه، والازدلاف إلى ثوابه ورحمته، بالمحافظة على فرائضه، والمداومة على محابهّ ومراضيه.
وأن يُسلّم التسليم الكامل، ويؤمن الإيمان الجازم بكلّ ما جرت به المقادير، مما يسوء الإنسان ويحزنهُ أو يُفرحهُ وتطيب نفسه وتلتذّ به، أما من تمكّنت الشبهةُ في قلبه لجهله بالله، وتعاميه عن آياته، وجحده لحقائق قُدرته، ومصاديق قهره وغضبه ونقمته الظاهرة في الأنفس وفي الآفاق، فلا يزداد إلا عتوّا واستكبارا عنه، وانصرافا عن طاعته، وإنكارا لقُدرته وربوبيته، وجحودا لألوهيته، وإنكارا لحكمته في قدره وقضائه، وحُسن تدبيره.
وأن يعلم العبد أنّ كلّ ما قدّره الله من الخير الذي تطيب به أحوال الخلق، وتأنس به نفوسهم، والشرّ الذي هو ماض في إهلاك أنفسهم، وإتلاف صحّتهم، وإفساد معايشهم، واقع على وجه الحكمة والعدل، لم يقع اتفاقا واعتباطا، ولا بمحض المشيئة المجرّدة عن وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، بل بحكمة اقتضت أمرا يعلمهُ الله سبحانه، تتقاصر أفهام الخلق وتعجز أذهانهم عن معرفة مآلاته، ودرك ما تصير إليه جوائحه، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، وقال جلّ شأنه:{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }.
لكننا نوقن إيقانا تامّا أنّ فيه ابتلاء للمؤمنين، وتمحيصا لذنوبهم، ورفعة لدرجاتهم ومنازلهم، فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ما يُصِيبُ المسلم من نَصَبٍ ولا وصَبٍ وَلاَ هَمّ وَلاَ حَزَن ولا أذى ولا غمٍّ، حتَّى الشوكة يُشاكها إِلا كفَّر الله بها من خطَايَاه “.
وفي هذه الجائحة العقوبة للمستكبرين، والأخذ للجاحدين، الذين قالوا بألوهيّة الإنسان، واتّخذوه ربّا من دون الله، وزعموا قُدرته على التغلّب على الطبيعة وحده، دون التفات للدين، ودون حاجةٍ لاستمداد العون، واستمطار الفرَج، وتنفيس الكُرب من الله تعالى.
وما من خلاص للبشريّة من هذا البلاء إلا بالرجوع إلى الله، والانطراح بين يديه فهو القادر وحده على أن يكُفّ البأس، ويقيهم عقابيل هذا الداء مع أخذهم التدابير الواقية، والأسباب المأذونة، والأدوية النافعة.
فأعظم ما برهنته هذه النازلة، وكشفت عنه هذه الجائحة، فقر الخلق كلّهم الى الله، فقراً في كل حال، وضرورة وفاقة إليه في كلّ وقت، فهم فقراء معاويز محاويج إلى الله منذ أن حملت بهم أمهاتهم، وهذا الفقر ملازمٌ لهم إلى أن يُدفنوا في قبورهم، وفقرا خاصا أظهرته هذه النازلة، وشهد به هذا الوباء، فالخلق لا يستطيعون التحرز منه، ولا دفعَ أذاهُ وضُرّه عن أنفسهم وأهليهم، ومن أُصيب به، فلا يقدر على رفع هذا البلاء عنه الا برحمة ولطف خفيّ من الله.
فعلى العبد أن يشهد فقره وعِوزهُ وحاجته وفاقته واضطرارهُ إلى الله تعالى، في كل ذرة من ذراته، وفي كلّ نفس من أنفاسه، فاقة تامّة من كلّ وجه إلى الله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
فالفقر ذاتيّ للعبد لا ينفكّ عنه، والغنى التام صفة قائمة بالله سبحانه ملازمة له في كلّ حال.
وأنّ الواجب في هذه الحال، أن يعمل الإنسان بالأسباب التي تُرشده إليها وزارة الصحّة، ويتجنّب المحاذير التي حذّرته من مزاولتها، لنتمكن جميعا -بحول الله وقُدرته-، من احتواء هذا الداء، وتقليل خطره، وتجاوز محنته، ودفع شرّه، قبل أن يستفحل وينتشر، حتى نستطيع بوعينا وإدراكنا لأهميّة هذه التدابير الوقائية، والتعليمات والإرشادات الاحترازيّة الطبيّة من مواجهته والانتصار عليه بأقلّ الأضرار في الأنفس والأموال.
فيحتاط الإنسانُ لنفسه، ويتّقي المرض باتخاذ الأسباب الواقية منه، ويسدّ ذرائع انتشاره، ويغلق منافذ العدوى، ويحسم مادتها، ببقائه في بيته، واعتزاله المؤقت الجمع والجماعات في المساجد، ويحذر ارتياد مجامع الناس كالأسواق وحفلات الزواج، ومجالس العزاء ونحوها، حتى يأذن الله برفع هذا البلاء، وكشف هذه الغُمّة.
نسأل الله أن يدفع عنا كلّ سوء، ويقينا كلّ شر، وأن يكشف هذه الجائحة، ويرفع النّازلة، وأن يحفظ لنا أمننا وإيماننا، وأن يبارك في جهود ولاتنا، ويُحقق مأمولهم، وينوّلهم مقصودهم، إنّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
كتبه محمد بن علي الجوني الألمعي