نيل المنى
عبدالله بن صالح العبيلان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلا، واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، والحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلا، واختص هذه الأمة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمره ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلا، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، ويحيون بكتابه الموتى فهم أحسن الناس هديا وأقومهم قيلا، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه، ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه، جهادا في الله وابتغاء مرضاته وبيانا لحججه على العالمين.
أما بعد:
فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والرشاد وشرها أوعاها للغي والفساد، وسلط عليها الهوى وامتحنها بمخالفته لتنال بمخالفته جنة المأوى ويستحق من لا يصلح للجنة بمتابعته نارا تلظى، وجعله مركب النفس الأمارة بالسوء وقوتها وغذاؤها وداء النفس المطمئنة ومخالفته دواؤها، ثم أوجب سبحانه وتعالى على العبد في هذه المدة القصيرة التي هي بالإضافة إلى الآخرة كساعة من نهار أو كبلل ينال الأصبع حين يدخلها في بحر من البحار عصيان النفس الأمارة ومجانبة هواها، وردعها عن شهواتها التي في نيلها رداها، ومنعها من الركون إلى لذاتها ومطالبة ما استدعته العيون الطامحة بلحظاتها، لتنال نصيبها من كرامته وثوابه موفرا كاملا، واعلم أن الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح فالهوى مستحث لها لما يريده كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا كما أن الغضب لا يذم مطلقا ولا يحمد مطلقا وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار ولما كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم غلبة الضرر لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه بل لا بد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه فحرص الناصح على تعديل قوى الشهوة والغضب من كل وجه وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما إلا ما جاء منه مقيدا كقوله صلى الله عليه وسلم : ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ” .
وقد قيل : الهوى كمين لا يؤمن ، قال الشعبي : ” وسمي هوى لأنه يهوي بصاحبه” .
ومطلقه يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة ويحث على نيل الشهوات عاجلا وإن كانت سببا لأعظم الآلام عاجلا وآجلا فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة والهوى يعمي صاحبه من ملاحظتها والمروءة والدين والعقل ينهى عن لذة تعقب ألما وشهوة تورث ندما فكل منها يقول للنفس إذا أرادت ذلك لا تفعلي والطاعة لمن غلب ألا ترى أن الطفل يؤثر ما يهوى وإن أداه إلى التلف لضعف ناهي العقل عنده ومن لا دين له يؤثر ما يهواه وإن أداه إلى هلاكه في الآخرة لضعف ناهي الدين ومن لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهي المروءة ، فأين هذا من قول الشافعي رحمه الله تعالى : ” لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته ” .
ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم وكان كل وقت تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان حاكم العقل وحاكم الدين وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائما إلى هذين الحاكمين وأن ينقاد لحكمهما وينبغي أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرا في الأحيان غير أن العادة مقتضية ذلك فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة واغتم من حيث ظن الفرح وألم من حيث أراد اللذة فهو كالطائر المخدوع بحبة القمح لا هو نال الحبة ولا هو تخلص مما وقع فيه، فإن قيل فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه قيل يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور :
أحدها :
عزيمة حر يغار لنفسه وعليها .
الثاني :
جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة .
الثالث :
قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة والشجاعة كلها صبر ساعة وخير عيش أدركه العبد بصبره .
الرابع :
ملاحظته حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة .
الخامس :
ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه .
السادس :
إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى .
السابع :
إيثاره لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية .
الثامن :
فرحه بغلبة عدوه وقهره له ورده خاسئا بغيظه وغمه وهمه حيث لم ينل منه أمنيته والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه كما قال الله تعالى في كتابه العزيز [وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ] {التوبة:120} وقال : ( يَغِيظُ الكُفَّارَ ) وقال تعالى : [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] {النساء:100} أي مكانا يراغم فيه أعداء الله وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم .
التاسع :
التفكر في أنه لم يخلق للهوى وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصية للهوى كما قيل :
قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
العاشر :
أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه فيؤثر النافع على الضار والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه أو عرف ذلك وآثر ما يضره كان حال الحيوان البهيم أحسن منه ويدل على ذلك أن البهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح مالا يناله الإنسان مع عيش هنيء خال عن الفكر والهم ولهذا تساق إلى منحرها وهي منهمكة على شهواتها لفقدان العلم بالعواقب والآدمي لا يناله ما يناله الحيوان لقوة الفكر الشاغل وضعف الآلة المستعملة وغير ذلك فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ووفر منه حظ البهائم وفي توفير حظ الآدمي من العقل والعلم والمعرفة عوض عن ذلك .
الحادي عشر :
أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كما أفاتت معصيته من فضيلة وكم أوقعت في رذيلة وكم أكلة منعت أكلات وكم من لذة فوتت لذات وكم من شهوة كسرت جاها ونكست رأسا وقبحت ذكرا وأورثت ذما وأعقبت ذلا وألزمت عارا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء .
الثاني عشر :
أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما فاته وما حصل له فأفضل الناس من لم يرتكب سببا حتى يميز لما تجني عواقبه .
الثالث عشر :
أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة فحكم الشيء حكم نظيره .
الرابع عشر :
أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ” إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها ” .
وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين :
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه
لأن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر الحال الحاضرة الملازمة والشاعر أحال على أمر متأخر .
الخامس عشر :
أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلا ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس بواطن قد أجمعوا بين فصيلتي الكبر والذل .
السادس عشر :
أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه ونيل اللذة المطلوبة فإنه لا يحد بينهما نسبة البتة فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا .
السابع عشر :
أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة وميلا إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسا وسرقة.
الثامن عشر :
أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه ويعزل بهواه وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة فما قارن شيئا إلا أفسده .
التاسع عشر :
أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه فإنه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى فيسري معه سريان السم في الأعضاء .
العشرون :
أن الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادا لما أنزله على رسوله وجعل اتباعه مقابلا لمتابعة رسله وقسم الناس إلى قسمين أتباع الوحي وأتباع الهوى وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى : [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ] {القصص:50} وقوله تعالى : [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ ] {البقرة:145} ونظائره .
الحادي والعشرون :
أن الله سبحانه وتعالى شبه أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى فشبههم بالكلب تارة كقوله تعالى :[وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ] {الأعراف:176}
وبالحمر تارة كقوله تعالى : [كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] {المدَّثر 51:50} وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارة .
الثاني والعشرون :
أن متبع الهوى ليس أهلا أن يطاع ولا يكون إماما ولا متبوعا فإن الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته أما عزله فإن الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم : [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] {البقرة:124} أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالما وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله تعالى :[بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] {الرُّوم:29}
وأما النهي عن طاعته فلقوله تعالى : [ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ] {الكهف:28}
الثالث والعشرون :
أن الله سبحانه وتعالى جعل متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى : [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا] {الفرقان:43} في موضعين من كتابه قال الحسن : ” هو المنافق لا يهوى شيئا إلا ركبه ” .
، وقال أيضا : “المنافق عبد هواه لا يهوى شيئا إلا فعله ” .
الرابع والعشرون :
أن الهوى هو حظار جهنم المحيط بها حولها فمن وقع فيه وقع فيها كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ” .
وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه : ” لما خلق الله الجنة أرسل إليها جبريل فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع إليه وقال وعزتك لا يسمع بها أحد من عبادك إلا دخلها فأمر بها فحجبت بالمكاره وقال ارجع إليها فانظر إليها فرجع فإذا هي قد حجبت بالمكاره فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع فانظر إليها فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات فرجع إليه فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ” .
الخامس والعشرون :
أنه يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ” .
سبق تخريج هذا الحديث .
وصح عنه أنه قال : ” أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ” .
السادس والعشرون :
أن اتباع الهوى من المهلكات قال صلى الله عليه وسلم : ” ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فتقوى الله عز وجل في السر والعلانية والقول بالحق في الرضا والسخط والقصد في الغنى والفقر وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه ” .
السابع والعشرون :
أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه قال بعض السلف : ” الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده ” .
وفي الحديث الصحيح المرفوع : ” ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ” .
وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته .
الثامن والعشرون :
أن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه ، قال معاوية : ” المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى ” .
، فاتباع الهوى يزمن المروءة ومخالفته تنعشها .
التاسع والعشرون :
أنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه فأيها قوي على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له قال أبو الدرداء : ” إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان هواه تبعا لعمله فيومه يوم صالح ” .
الثلاثون :
أن الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين يشير إلى قوله تعالى:[قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ] {سبأ:50} وكما قال بعض السلف : ” إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيها أرشد فخالف أقربهما من هواك فإن أقرب ما يكون الخطأ في متـابعة الهـوى” .
الحادي والثلاثون :
أن الهوى داء ودواؤه مخالفته ، قال بعض العارفين : ” إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته ” .
وقال بشر الحافي رحمه الله تعالى : ” البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه ” .
الثاني والثلاثون :
أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه ، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى : ” يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل ؟ قال : جــهادك هــواك ”
وسمعت شيخنا يقول : ” جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم ” .
الثالث والثلاثون :
أن الهوى تخليط ومخالفته حمية ويخاف على من أفرط في التخليط وجانب الحمية أن يصرعه داؤه ، قال عبدالملك بن قريب : ” مررت بأعرابي به رمد شديد ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : ألا تمسح عينيك ، قال : نهاني الطبيب عن ذلك ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر وإذا أمر لا يأتمر، فقلت : ألا تشتهي شيئا ، فقال : بلى ولكني أحتمي إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا ” .
الرابع والثلاثون :
أن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه ، قال الفضيل ابن عياض : ” من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق ” .
وقال بعض العلماء : ” الكفر في أربعة أشياء في الغضب والشهوة والرغبة والرهبة ” ثم قال : ” رأيت منهن اثنتين رجلا غضب فقتل أمه ، ورجلا عشق فتنصر ” .
وكان بعض السلف يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال: ” أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين ” ؟ فقالت : دع أحدهما تنل الآخر .
الخامس والثلاثون :
أن من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه لأنه قد خان الله في عقله فأفسده عليه وهذا شأنه سبحانه وتعالى في كل من خانه في أمر من الأمور فإنه يفسده عليه .
وقال المعتصم يوما لبعض أصحابه : ” يا فلان إذا نصر الهوى ذهب الرأي ” .
وسمعت رجلا يقول لشيخنا : ” إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد أو قال نسيه ” ، فقال الشيخ : ” هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم ” .
السادس والثلاثون :
أن من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليها في قبره ويوم معاده ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسع عليها في قبره ومعاده وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى : [وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] {الإنسان:12} فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة ، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى في هذه الآية : ” جزاهم بما صبروا عن الشهوات ” .
السابع والثلاثون :
أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة عن السعي مع الناجين كما صرع قلبه في الدنيا عن مرافقتهم ، قال محمد بن أبي الورد : ” إن لله عز وجل يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته وإن العقول لما جرت في ميادين الطلب كان أوفرها حظا من يطالبها بقدر ما صحبه من الصبر والعقل معدن والفكر معول ” .
الثامن والثلاثون :
أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها ومخالفته تشدها وتقويها والعزائم هي مركب العبد الذي يسيره إلى الله والدار الآخرة فمتى تعطل المركوب أوشك أن ينقطع المسافر ، قيل ليحيى بن معاذ : ” من أصح الناس عزما ؟ قال : الغالب لهواه ” .
ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن المهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن الناس وجها فقال له سليمان : ” كيف ترى هذه الجارية ؟ فقال : أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط ، فقال له : خذ بيدها ، فقال : ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة عجبه بها ، فقال : ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب وأخذ بيدها وخرج وهو يقول:
لقد حباني وأعطاني وفضلنــي عن غير مسألة منه سليمان
أعطاني البدر خودا في محاسنها والبدر لم يعطه إنس ولا جان
ولست يوما بناس فضلـــــه أبدا حتى يغيبني لحد وأكفان ”
التاسع والثلاثون :
أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديد صعب جموح لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك ، قال بعض العارفين : ” أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات ومن استوى على متن هواه أسرع به إلى وادي الهلكات ” .
وقال آخر : ” أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا واستصعب قياده على الهوى ” .
وقال عطاء : ” من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح ” .
الأربعون :
أن التوحيد واتباع الهوى متضادان فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب بل المراد كسرها من القلب أولا ، قال الحسن بن علي المطوعي : ” صنم كل إنسان هواه فمن كسره بالمخالفة استحق اسم الفتوة ” .
وتأمل قول الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه : [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] {الأنبياء:52} كيف تجده مطابقا للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله ، قال الله تعالى :[أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان43: 44}
الحادي والأربعون :
أن مخالفة الهوى مطردة للداء عن القلب والبدن ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه .
الثاني والأربعون :
أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح ، قال أبو بكر الوراق : ” إذا غلب الهوى أظلم القلب وإذا أظلم ضاق الصدر وإذا ضاق الصدر ساء الخلق وإذا ساء الخلق أبغضه الخلق وأبغضهم ” .
فانظر ماذا يتولد من التباغض من الشر والعداوة وترك الحقوق وغيرها .
الثالث والأربعون :
أن الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلا فأيهما ظهر توارى الآخر ، كما قال أبو علي الثقفي : ” من غلبه هواه توارى عنه عقله ” .
فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه .
وقال علي بن سهل رحمه الله : ” العقل والهوى يتنازعان فالتوفيق قرين العقل والخذلان قرين الهوى والنفس واقفة بينهما فأيهما غلب كانت النفس معه ” .
الرابع والأربعون :
أن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعدتين فالحق والزهد والهدى سلطان وأعوانه الملائكة وجيشه الصدق والإخلاص ومجانبة الهوى والباطل سلطان وأعوانه الشياطين وجنده وعدته اتباع الهوى والنفس واقفة بين الجيشين ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلا من ثغرتها وناحيتها فهي تخامر على القلب وتصير مع عدوه عليه فتكون الدائرة عليه فهي التي تعطي عدوها عدة من قبلها وتفتح له باب المدينة فيدخل ويتملك ويقع الخذلان على القلب .
الخامس والأربعون :
أن أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه وأصدق صديق له عقله والملك الناصح له فإذا اتبع هواه أعطي بيده لعدوه واستأسر له وأشمته به وساء صديقه ووليه وهذا هو بعينه هو جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء .
السادس والأربعون :
أن لكل عبد بداية ونهاية فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان ، والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه كما قال القائل :
مآرب كانت في الشباب لأهلها عذابا فصارت في المشيب عذابا
فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس ، قال أبو علي الدقاق : ” من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله تعالى في حال كهولته ” .
وقيل للمهلب بن أبي صفرة : بم نلت ما نلت ؟ قال : ” بطاعة الحزم وعصيان الهوى ” .
فهذا في بداية الدنيا ونهايتها وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه والنار نهاية من اتبع هواه .
السابع والأربعون :
أن الهوى رق في القلب ، وغل في العنق ، وقيد في الرجل ، ومُتابعه أسير لكل سيّء المَلَكَةِ ، فمن خالفه عتق من رقه ، وصار حرا ، وخلع الغل من عنقه ، والقيد من رجله ، وصار بمنزلة رجل سالم لرجل بعد أن كان رجلا فيه شركاء متشاكسون .
رب مستور سبته شهوة فتعــرى ستره فانهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكا
وقال ابن المبارك :
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها والحــرّ يشبع تارة ويجوع
الثامن والأربعون :
أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها درة ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لما ظفر به من هواه البتة فتأمل انبساط يد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ولسانه وقدمه ونفسه بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام , وقال عبدالرحمن بن مهدي : ” رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام ، فقلت له : ما فعل الله بك ، قال : لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسا ولا حركة إذ سمعت قائلا يقول : سفيان بن سعيد ، فقلت : سفيان بن سعيد ، فقال : تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوما ؟ قلت : إي والله فأخذني النثار من كل جانب ” .
وقال عبد الرزاق : ” بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة ، وقال إن رأيتم سفيان فاصلبوه فجاءوا ونصبوا الخشب وطُلِبَ ورأسه في حِجر الفضيل ، فقال له أصحابه : اتق الله عز وجل ولا تشمت بنا الأعداء ، فتقدم إلى الأستار ثم أخذها بيده وقال : برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات قبل أن يدخل مكة ” .
.
فتأمل عاقبة مخالفة الهوى كيف أقامه في هذا المقام .
التاسع والأربعون :
أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الظاهر وعز الباطن ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة وتذله في الظاهر وفي الباطن وإذا جمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم ألا ليقم المتقون فيقومون إلى محل الكرامة ، وأتباع الهوى ناكسو رؤسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه وأولئك في ظل العرش .
الخمسون :
أنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى ، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه ، والشاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك ، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات ، والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك ، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه ، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه ، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة ، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى ، فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير تم الكتاب والحمد لله .