الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه لمّا انتشر مذهب الخوارج في هذا الزمن، وتكفيرهم المسلمين، وغلب عليهم أن كل شيء يحل لهم فعله فيمن كفَّروه؛ من استحلال دمه وماله، ومن ذلك أنهم لا يرون أنّ له دعوة مستجابة فيما ظُلِم فيه، وإلا لمَا تجرؤوا عليه بالقتل وسلب ماله.
وإذا كانت هذه عقيدتهم فيمن هو مسلم دخل الإسلام بعقد، فكيف بهم فيمن كان كافراً أصلاً لم يدخل الإسلام، كاليهود والنصارى وسائر ملّة الكفر ؟!!
فلما نظرت في هذا السؤال من هذا الجانب، وأيضاً من جانب آخر؛ وهو أن الأعداء من الكفار سيتهمون الإسلام بأنه يستحل أموال المظلومين ـ من غير أهله ـ، والتسلط على أشخاصهم.
و الإسلام من ذلك براء.
أضف إلى ذلك ما ترفعه “منظمات حقوق الإنسان” من شعارات زائفة براقة؛ بأنهم هم الأوصياء على البشرية في أخذ حقوقهم والدفاع عنهم.
ونسوا وتناسوا، وتجاهلوا أن الإسلام هو الأوحد من ضمن للناس حقوقهم؛ مسلمهم وكافرهم.
بل واعتنى بحقوق الحيوان ففي الصحيحين ومسند أحمد قال رسول الله r:
(قال دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فلم تُطْعِمْهَا ولم تَدَعْهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الأرض).
نعم، لسنا في مقام القصاص الآن ولا في باب الحقوق، ولكن الكلام جر بعضه بعضا.
فدعوة الكافر يستجيب الله له فيها إن كان مظلوماً ومضطراً في أمور دنياه، وليس ثمّة ما يمنع، لأن ذلك من كمال عدله وحكمه سبحانه وتعالى، وقد جاءت الشريعة بثبوت ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة.
هذه الآيات لاشك أنها تشمل المسلم والكافر، فالمضطر إما أن يكون مسلماً وإما يكون كافراً.
“قال سهل أهل الدعوة صنفين من الناس مستجابة لا محالة؛ مؤمناً وكافراً دعاء المضطر ودعاء المظلوم لأن الله يقول ] أمن يجيب المضطر إذا دعاه[والنبي يقول: دعاء المظلوم يرفع فوق الحجاب ويقول الله عز وجل وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين”.
“تفسير السلمي” (2/94).
“قوله تعالى: ]أمن يجيب المضطر إذا دعاه[، قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود، وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة، وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله، وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس، وقال سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها”. “تفسير القرطبي” (13/223).
قال ابن كثير في “تفسيره” (6/212):
” ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد, المرجو عند النوازل, كما قال تعالى: ]وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه[. وهكذا قال ههنا ]أمن يجيب المضطر إذا دعاه[؛ أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه, والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه”.
وقال القرطبي:
“ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه وأخبر بذلك عن نفسه والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة وجد من مؤمن أو كافر طائع أو فاجر كما قال تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وقوله فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه وفي الحديث ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده ) ذكره صاحب الشهاب وهو حديث صحيح وفي صحيح مسلم عن النبي r أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن (واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب)، وفي كتاب الشهاب (إتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) وهو صحيح أيضاً وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم (فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر)، فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه وإجابة لإخلاصه وإن كان كافراً، وكذلك إن كان فاجراً في دينه، ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته”. انتهى. (13/223 ـ 224).
وبين سبحانه بعد الآية في سورة يونس السابقة الذكر ]……دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ[ فقال تعالى: (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ ..). (يونس : 23 ).
فبين سبحانه أنه أجابهم وهم كفار مشركين.
ومثلها في الوضوح والبيان الآية في سورة العنكبوت السابقة الذكر فإنه سبحانه استجاب لهم في حال شركهم مع إخلاصهم في الدعاء لاضطرارهم؛ مع علمه ـ سبحانه ـ الأزلي أنهم سيعودون لشركهم وكفرهم بالله تعالى، فقال سبحانه: ]…فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ [.
وتقييد الدعاء بالمشيئة، وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية له فافهم.
قال الشوكاني:
” أمن يجيب المضطر إذا دعاه هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم والمضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة وقيل هو المذنب وقيل هو الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر إذا دعاه وأخبر بذلك عن نفسه والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص وقطع النظر عما سوى الله وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين وإن كانوا كافرين فقال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وقال: ]فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون[ فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم ويكشف السوء أي الذي يسوء العبد من غير تعيين وقيل هو الضر وقيل هو الجور”. “فتح القدير” (4/146 ـ 147).
أما أدلة استجابة الله لدعاء الكافر من السنة:
فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:
(ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ …، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ على الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل وعزتي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ).
أحمد (2/304، 445)، و الترمذي (2526، 3598)، وابن ماجه (1752)، والبيهقي (8/162). وصححه الألباني.
وعنه t قال: قال رسول اللَّهِ r:
(دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وان كان فَاجِراً فَفُجُورُهُ على نَفْسِهِ).
أخرجه ابن أبي شيبة (29374)، و أحمد (2/367)، والشهاب (1/208)، والهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/151)، قال ابن حجر في “الفتح” (3/360): “وإسناده حسن”، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” (3382)، و”صحيح الترغيب والترهيب” (2229).
وأصرح من ذلك حديث أَنَسَ بن مَالِكٍ t قال: قال رسول اللَّهِ r:
(اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كان كَافِراً فإنه ليس دُونَهَا حِجَابٌ).
أخرجه أحمد (3/153)، والشهاب في “المسند” (2/97)، والضياء في “المختارة” (7/293) وصححه، وأورده الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/152). وانظره في “الصحيحة” (767) للألباني. قال المناوي في “التيسير” (1/31): “إسناده صحيح”.
قال المناوي:
“أي تجنبوا الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم، فإنّ دعوته إذا كان مظلوما مقبولة والله تعالى ينتقم له كما ينتقم منه، ليس بينها وبين القبول مانع”. “التيسير بشرح الجامع الصغير” (1/31).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“وأما إجابة السائلين فعام فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً”. “مجموع الفتاوى” (1/223).
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين,,,,,