ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب (2)
د. عارف بن عوض الركابي
ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب (2)
د. عارف عوض الركابي
وقبل المواصلة في التعقيب على ما نشره الكاتب علي يس في مقالاته المشار إليها في الحلقة الماضية ، فإني أشكر الإخوة القائمين على هذه الصحيفة (صحيفة الانتباهة) بعد شكر الله تعالى لإيقافه عن الكتابة بها ، فإن كفّ الأيدي وإيقاف الأقلام التي تتعرض لثوابت الدين ، وتشكك في سنة النبي الكريم ، وترسل الاتهامات الجزاف لسلف المسلمين الصالحين ، وتجعلهم في مقام الآباء والأجداد الضالين الذين ورد ذكرهم في قول رب العالمين : (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) .. إن كفّ الأقلام التي تنشر ذلك وأمثاله دون أن تورد حججها وشبهاتها ــ حتى ولو كانت باطلة ــ بشيء من التفصيل ، بل على منهجية (إيراد الخواطر ورمي الأفكار في قضايا عظيمة وثوابت راسخة من ثوابت الدين الحنيف).. إن كفّها لهو من التوفيق ، وإن منع المتطفلين على العلم الشرعي ، والمتهجمين على أحكام الشريعة بدون بيّنات أو براهين ، إن منعهم من خوضهم في ذلك لهو من أهم أسباب اجتماع الكلمة ، وتقليل الخلاف بين المسلمين ، ومما ورد من عبارات الأئمة المرضيين رحمهم الله : (لو سكت من لا يعلم لقلّ الخلاف) .. وإن إيقاف من يشكك في ما يعتقده (كل المسلمين) بهذه البلاد على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم فيدعي زوراً وبهتاناً أن أحاديث النبي الكريم وإن توفرت فيها شروط الصحة فهي ظنية ويجب تمحيصها بالعقول بين كل فترة وحين ، ومن يشكك في الصحابة والتابعين ويدعي دخول المنافقين أعداء المؤمنين في تعريفهم ومصطلحهم .. إن إيقاف من هذه وأشباهها من بضاعته لهو أمر حسن وصنع جميل نشكر القائمين على الصحيفة عليه.
وإن إيقاف من وصف عدو الله إبليس بالمناضل والسيد والثائر على الديكتاتورية !! ومن وصف الشياطين بالثوار الأحرار!! وأن اعتقالهم في شهر رمضان تم”تعسفياً” ، ومن وصَف الملائكة على لسان إبليس بأنهم “انتهازيون” و”عملاء” !! بل من وصف ما ذكره القرآن بشأن إبليس على لسانه أنه “تبسيط مخل” .. لهو من واجبات الدين .. فحفظ الدين مقدم على حفظ الأبدان والأموال..
وهذه الجرائم والمويقات وأشباهها مما تكرر من هذا الكاتب ، رغم الردود السابقة عليه ، ونشره لاستغفار سابق عن بعض ما كتبه ، قال فيه : (وفي الحوار الذي أثار تلك الضجة بادر بعض إخوتنا الذين يحسنون بنا الظن إلى تنبيهنا إلى ما غاب عن إدراكنا) .. وأحسب أن القائمين على الصحيفة قد توقعوا أن ذلك الموقف هو الأخير بعد ذلك الجدل الطويل ، لكن خاب الظن ، فرجع بعد وقت يسير، ونشر غيّاً .. في مقالات عديدة وليس مقال واحد .. ونشر كلاماً ينشره الرافضة ويشاركهم فيه اللبراليون والعلمانيون من التشكيك في أحاديث سيد المرسلين وتسفيه فهم الصحابة والتابعين للدين ، والدعوة لتحكيم العقل في ما ورثه المسلمون من أحاديث النبي الكريم المصدر الثاني من مصادر الشريعة ، إلا أنه ــ كعادته في تناوله لمثل هذه القضايا ــ لم يحسن عرض ما تحمّل مسؤولية نشره فبان هزال ما نسخه ، ولصقه بغير ترتيب أو تنسيق..
ولربما احتاج إلى تنسيق وهو ما قرأناه في صحيفة (التيار) الصادرة يوم أمس الاثنين الثاني من شهر أبريل الموافق العاشر لشهر جمادى الأولى ، حيث قال : (المقال لم يتعرض للسلف بالإساءة فهم قد أدوا دورهم في زمانهم لكن لكل زمان رجاله) .. هذا ما قاله علي يس في صحيفة التيار يوم أمس أما ما ذكره في هذه الصحيفة قبل أيام (قليلة) !! في هذا الصدد فكثير ، منه قوله : (يا أبا خالد، والله العظيم إن السلف الذين تعني هُم بشرٌ أمثالُنا، ولن تعجز أن تجد اليوم من يتجاوزهم علماً وفهماً) ومما قاله أيضاً قبل أيام قليلة : (وربما وضع بعض سفهاء القرن الثاني أو الثالث روايةً ثم نشرها معنعنةً إلى رجُلٍ مشهودٍ له بالصدق والتقوى، ثم سارت بها الركبان واعتبرها الناس من مأثورات الدين!!) ومما قاله قبل أيام قليلة : («هذا ما وجدنا عليه آباءنا» أو«هذا ما قالهُ السلف» «والعبارتان، يا شيخ، معناهما واحد»؟!) .. فجعل (السلف الصالحين) من الصحابة والتابعين في مقام أولئك (الآباء الأجداد الضالين) الذين يوصف من اتبعهم في غيّهم وضلالهم وسار على دربهم ..بأنه من الضالين .. ومع أن هذا مما نشره قبل أيام قليلة إلا أنه يقول يوم أمس في صحيفة التيار إن مقاله لم يتعرض للسلف بالإساءة !! فيا لها من (قوة عين) !! كما يقولون ..!!
وإن كان مقالي هذا هو (العاشر) في تعقيبي على هذا الكاتب وقد كان أول مقال نشرته بهذه الصحيفة في الرد عليه في يوم 28 رمضان 1429هـ ، إلا أنه لا بد لي من أن أبين أن ردي عليه هو من باب دحض الشبهات التي ينشرها ، ولتوضيح الحق الذي حاول محاولات (بائسة) لأن يلبسه بالباطل ، وردودي عليه كلها منشورة وفي متناول الأيدي ، وقد سرت فيها بتوفيق الله كما سرت في غيرها من ردودي وتعقيباتي أرجو أنها كانت بالمناقشة العلمية والموضوعية في الرد على تلك الأباطيل ، وبالتفصيل الذي تبرأ به الذمة وتنكشف به الشبهات، لقناعتي أن هذا هو الأسلوب الأمثل ، بعيداً عن منهجية : إصدار البيانات أو فتح البلاغات أو المطالبة بالاستتابة للمخالفين أو الإنكار العام مما درج عليه بعض الأفراد وبعض الهيئات دون تناولهم العلمي بالتفصيل وتفنيد الشبهات التي يتم نشرها بين العامة.
ومواصلة في التعقيب على ما تضمنته المقالات الأخيرة لهذا الكاتب أقول :
خامساً : قال علي يس : (وأن النصوص الدينية تنقسم إلى «نص مطلق» لا يحتملُ النقاش في صحته، وإن كان يحتمل النقاش في تأويله حسب ضوابط اللغة، هُو كتابُ الله تعالى، و«نص نسبي» هُو كل ما نُسب إلى البشر بمن فيهم النبي نفسهُ صلَّى الله عليه وسلم ، وهذا لابُدَّ من إعمال العقل فيه وفحصه «ليس مرة واحدة وفي عصرٍ واحد، كما يظن بعضهم، ولكن في كل زمان وكلما قامت الحاجة أو جدَّ شأنٌ يستوجبُ إعادة الفحص) وقال : (ولن يقبل الله منا ديناً يُردُّ إليهم دون كتابه العزيز الذي هو لُبُّ هذا الدين وضابطه الأول والأعلى، وإنما نأخذُ منهم، إن أخذنا، بعد إعمال العقول التي أمرنا الله بإعمالها).. وقال : (والتدبُّر لا يعني أبداً يا مولانا أن نأخذ كل تفاسير السلف على أنها صوابٌ مطلقٌ، بل يعني أن نُعمل عُقولُنا) وقال : (لا يتصور أحدهم، مطلقاً، أن عدالة الله المطلقة تقتضي المساواة الكاملة بين البشر في تكليفهم بالبحث عن الحقيقة، بحثاً لا يرتهن إلى أية مسلمات قبلية، ولا يتورع عن مناقشة أي مصدر، والشك في أي مشرب، والاحتكام إلى العقل وحده ) أ.هـ
وفي هذه النقول ينشر الكاتب علي يس وجوب إعمال العقل في القرآن الكريم قبل النظر في غيره ، وينشر وجوب الحكم بالعقل في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وفحصها بالعقول في كل فترة وعصر !! ويدعي أنه لا توجد مسلمات وأنه يجب الشك في كل مشرب ومصدر !! وفي لقاء صحيفة التيار يوم أمس كرّر هذه الدعوة الداحضة الخَرِبة ، ووضع لها بعض التوابل (التالفة) وأعني بالتوابل : الافتراء العريض في محاولة (يائسة) للتلبيس لما قال ، حيث افترى فقال : (.. الذين يزعمون أنهم سلفيون أول شيء يرتبونه على هذه الدعوة أنه لا مكان للعقل في الدين وهذا تحنيط للدين وضد الدين ..) أقول : فمن أين أخذ يا ترى هذا الكاتب (المترنح) هذه الفرية ؟! .. أم هي طريقة من أعياه إقامة الحجة لما يقول ؟! ويذكرني هذا الموقف بما يتهم به ــ بهتاناً ــ كل فترة الصادقُ المهدي السلفيين ويرميهم بالديباجة المحفوظة من أنهم (تكفيريون) .. وعندما نقلت له عبارات جده المهدي في تكفير كل من لم يتبعه ، لم نجد منه الإنكار لذلك بل وقفنا على تبرير منه منشور قديماً لذلك التكفير بالجملة مما نقل في تراث جده المهدي!!
إن عامة أهل السنة والجماعة (وأعني بهم اهل السنة في مقابل الشيعة) يقولون : إن العقل لا يستقل بالتشريع ، ولا يحكم به على نصوص القرآن وما صح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فالتشريع إلى الله تعالى وحده في كتابه وسنة نبيه ، ومن المستحيل أن يرد الشرعُ بما يخالف العقلَ ويناقضُه ، وقد يأتي الشرع بما يبهر العقول ، لكن صحيح المنقول لا يخالف صريح المعقول ، ولابن تيمية كتاب ضخم في هذه القضية ، لا أدري هل سمع الكاتب به أم لا ؟! والذين قدموا العقل على النقل هم المعتزلة وهي طائفة خالفت أهل السنة والجماعة في أصول الدين ، ومن افتتن بالمعتزلة من المتأثرين بهم رجعوا وسطروا شهادات توبتهم ، ومما نقل عن الفخر الرازي رحمه الله أنه قال قبل وفاته :
نهاية إقدام العقول عقال***وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا*** وآخر دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا***سوى أن جمعنا قيل وقال
وثمة أسئلة مهمة يجب أن يجيب عليها من يقولون بتقديم العقل على النقل ، والحكم به على النصوص ، منها :
عقل من يا ترى الذي يتم تحكيمه في النصوص الشرعية ؟! فالناس يتفاوتون في إدراكهم وعقولهم وتقديرهم للأمور كما هو معلوم ، فما هو العقل (المثالي) الذي يجب أن يحكم به على نصوص التشريع وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ؟! ثم إن اختلفت العقول في أمر واحد لقولين أو أقوال عديدة ، فقول من فيهم الذي سيكون هو الصائب ؟! وعقل من فيهم الذي سيكون راجحاً ؟! وإذا كان علي يس يظهر ويجهر بتعاطفه في لقاء صحيفة التيار معه يوم أمس مع الترابي والصادق المهدي ، فبالإمكان أن نأخذ هذين النموذجين ليجيب لنا عن هذه الأسئلة فأقول : هل نتبع ما دلَّ عليه عقل هذين الرجلين وهما في الحكم أم هما خارجه ؟!
هل كان العقل راجحاً عند من تحالف منهما مع جون قرنق ؟!
أم عند تحالفهما مع غيرهما في تجمع جوبا ؟!
أم من تحالف منهما مع الشيوعيين مؤخراً ؟!
فضلاً عن التقلب والتلون والتهجم بآرائهم في القضايا الشرعية !!
ومع استصحابنا لاختلاف عامة الناس معهما فيما يطرحانه في قضايا المرأة ــ مثلاً ــ هل كانت عقولهما هي الراجحة وعقول المخالفين هي الطائشة ؟! أم العكس؟!
وإذا كان علي يس يستميت دفاعاً عن الشيعة الرافضة كما سيأتي توضيحه بتفصيل في حلقة تالية إن شاء الله ، فهلا تدبر فيما وجده في البيئة السودانية التي يعيش فيها والتي تجل وتقدر الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار ولا تفرق بينهما .ولسان حالهم ما نظمه الإمام القحطاني الأندلسي رحمه الله :
حب الصحابة والقرابة سنة***ألقى بها ربي إذا أحياني
فهلا تدبر قول علي رضي الله عنه : (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفين أولى بالمسح من أعلاه) !! وإذا كان علي يس يدعي ويردد ما تردده الرافضة من دعوى الاكتفاء بالقرآن وحده وتدبره فهلا تدبر قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وكيف أن موسى قد أنكر بفهمه لتلك التصرفات ، وكانت حجة الخضر أنها من وحي الله تعالى ، قال الله تعالى : (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي..) .. فهلا أعمل التدبر الذي ينادي به ، وعلم أن العقل ينقاد للشرع ويسلم له دون أدنى حرج ، وليس هو الحاكم عليه ..
قال الشاطبي المالكي : «لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله، وهذا هو مذهب الصحابة وعليه دأبوا وإليه اتخذوا طريقاً إلى الجنة فوصلوا».
وإذا كان علي يس يدافع عن الشيعة الرافضة ، ويكرر دعواه تحكيم العقل في أحاديث نبينا فهلا كتب يوماً ما عن عقيدة (الرجعة إلى الدنيا) عند الشيعة ؟!! وعن عقيدة (المهدي الغائب) عندهم والمختفي داخل السرداب بهرطقاتهم منذ أكثر من ألف ومائتي عام ؟!! ولماذا لم نقرأ له إنكار تقطيع الأجساد في عاشوراء ؟! (اجساد الشباب والتبع والأطفال أما المعممون والآيات فهم زاهدون في أجر تقطيع الأجساد) !! ولماذا لم يتنبه بعقله إلى ما يبين أن آل البيت والصحابة كانوا إخوة متحابين ، ومما يوضح ذلك : المصاهرة التي كانت بين الصحابة وآل البيت ؟! و(التسمي) فلماذا سمّى أهل البيت أبناءهم بأسماء الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإخوانهما؟! ولماذا لم يثأر علي رضي الله عنه على الصحابة بعد تنصيبه بالخلافة فيثأرعلى الذين أخذوا الوصية المزعومة بكذب ابن سبأ اليهودي ؟!ولماذا لم تتم مبايعة إمام من آل البيت في الوقت الحالي ــ وأهل البيت موجودون في هذا الزمان ــ فلماذا لم تتم توليته بدلاً من (ولاية الفقيه) التي أحدثت مؤخراً وبدلاً من ولاية الفرس؟!
وأختم بتنبيه أوجهه لبعض الإخوة ببعض الصحف إلى أن قضية علي يس التي طرحها وتتم مناقشتها في هذه الحلقات وفي غيرها يخالفه فيها (كل الطوائف والمذاهب المنتسبة للإسلام في السودان) بمختلف طوائفهم وجماعاتهم ، فليتنبهوا لذلك ، فليست القضية قضية مجموعة معينة أو صحيفة محددة ، فليتنبهوا لذلك .. وليرجعوا البصر كرات وكرات .
ونواصل في الحلقة التالية إن شاء الله