خديجة بنت خويلد رضي الله عنها اسم يتلألأ في تاريخ الإسلام كما يتلألأ القمر ليلة البدر في أفق السماء.
“خديجة بنت خويلد” رمز الوفاء والصدق، والحكمة والعقل، والصبر والثبات.
تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت نعم الزوج لزوجها، ملأت عليه كل حياته، إذ كانت دائمة المبادرة إلى مرضاته، لا ترى له رغبة في شيء إلا وأسرعت بما يعينه على تحقيقها، رأت إعجابه بغلامها زيد بن حارثة فوهبته له، رأت تعلق قلبه بالخلوة في غار حراء الليالي الطويلة قبيل البعثة، فكانت تهيئ له الزاد وترسل معه من يقوم برعايته دون أن يفسد خلوته، تفعل ذلك بنفس راضية، مع أن في خلوته بعيداً عنها إضراراً بها فالزوجة تحب قرب زوجها منها ، ولا سيما حين يرخي الليل سدوله ، لتأنس به ، وتطمئن إليه.
وجاء الملك فجأة ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظنه الموت أو الجنون أو إحدى الدواهي العظيمة، فرجع إلى بيته مسرعاً، هلعا،ً خائفاً، تلقته خديجة وهو على ذلك الحال من الفزع فما كان موقفها ؟ هل وجدتها فرصة للتشفي والانتقام من هذا الزوج كثير البيات خارج المنزل ؟ من هذا الزوج المنشغل عن زوجه وبيته وبناته بتأملاته ؟ أليس هذا ما ستفعله عامة النساء لو كن في مكان خديجة ؟.
أما خديجة فكانت طرازاً آخر من النساء لا تشبههن في نقصهن ، ولا يشبهنها في كمالها، كانت تنظر بعين بعيدة المدى ، واسعة الأفق، كانت ذات صفاء نفسي، وشفافية بالغة ، كأنما تنظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، كانت واثقة من زوجها وصواب تصرفاته ، تتنبأ له بنبأ عظيم ، فأدركت سريعاً أن عليها أن تحسم الأمر بسرعة، أن عليها مهمة عظيمة، وهو طمأنة زوجها، وتسكينه، وتهدئة روعه ، فقالت مستدلة بالماضي على المستقبل (كلا والله ، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر).
لم تكتف بذلك، بل أخذت بيده وذهبت به إلى عالم مكة بالكتاب الأول إلى ابن عمها
(ورقة بن نوفل) فقص عليه خبره فقام ورقة وقبل رأس محمد صلى الله عليه وسلم وبشره أنه نبي هذه الأمة..
وجاءت الرسالة ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو قومه إلى عبادة الله وحده فطاشت أكبر العقول، وأذكاها. لكن خديجة بادرت إلى الإيمان فكانت أول من آمن. صدقت به حين كذبه الناس، وآمنت به حين كفر به الناس.
وانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ماضياً في دعوته قد أخذت عليه كل همه، لا يفتأ عنها ليلاً ولا نهاراً. وزوجه خديجة إلى جواره شامخة شموخ جبال مكة الشماء ، لا تزعزعها الأهوال ، ولا يميل بها خوف ولا رجاء.
وجاء الحصار الآثم الغاشم حصار (الشِّعب) الذي استمر ثلاث سنوات، وتنتقل خديجة مع زوجها مع أنها ليست من بني هاشم ، وهي عجوز جاوزت ستين عاماً، قد شاب شعرها ووهن عظمها، وخارت قوتها ، لكن إيمانها لا يزداد كل يوم إلا شباباً، وثباتها لا يزداد إلا صلابة. هاهي تبذل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم كل ما تقدر، بذلت شبابها ولسانها ومالها وعمرها وكل شيء في سبيل مرضاة الله وفي سبيل إتمام النبي صلى الله عليه وسلم مسيرة دعوته.
انتهى الحصار الغاشم ولكن بدأت رحلتها مع المرض مرض الموت ، وتأتيها البشارة من ربها قبل موتها كالجوائز التي تمنح للعظماء في أواخر أدوارهم. هذا جبريل عليه السلام يبلغها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام من الله ، والسلام منه، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب ـ أي من ذهب ـ لا صخب فيه ولا نصب” .
بيت من ذهب، لا صخب فيه ولا ضجيج مقابل ما تحملته من صخب المشركين والمستهزئين من رجال قريش ونسائها.
وميزة أخرى في هذا القصر أن لا نصب عليها فيه، راحة تامة مقابل ما تعبت في أيامها الخالية، لقد شاركت رسول الدعوة فدفعت ثمن شراكتها كثيراً من الجهد والسهر والبذل والعطاء فعوضها ربها خير عوض.
ثم جاء ملك الموت فقبض روحها الطاهر، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم على فقدها حزناً عظيماً، وحق له حيث فقد فيها الزوج الحنون، ورفيقة درب مدة ربع قرن، فقد العضد والنصير الداخلي الذي كان يخفف من أحزانه، ويمسح عنه غمومه، وما أكثرها علي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة حتى قال له ربه “لعلك باخع نفسك” أي لعلك مهلك نفسك حزناً على عدم إيمان قومك.
مرت السنون برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة، لكنه لم ينسها ، لم يشغله عن ذكراها أعباء الدعوة ، ولا هول الحروب، ولا الانشغال بتدبير بيوت عشر زوجات في وقت واحد ، كان معها على غاية الوفاء، ومن صور وفائه إكرامه لصديقاتها ، فما ذبح شاة إلا وأرسل إليهن إكراماً لذكرى خديجة.
وجاءته مرة عجوز فهش لها وأقبل عليها ، وأكرمها فتعجبت عائشة من هذه الحفاوة فقال صلى الله عليه وسلم إنها صديقة خديجة.
وكان قلبه يخفق حين يفجؤه ما يذكره بخديجة. ها هي هالة بنت خويلد تستأذن عليه فجأة فسمع صوتها وذكر فيه صوت خديجة فهب قائماً وقال اللهم هالة اللهم هالة. ـ أي اللهم اجعلها هالة ـ
ويتوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بتيجان لا تبليها الأيام ، لقد جعلها صلى الله عليه وسلم في مصاف مريم بنت عمران حيث يقول (خير نسائها ـ يعني الجنة ـ مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد). ويقول مبيناً بلوغها قمة في الكمال لم تبلغه من نساء العالمين إلا القليل (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم).
وسمع مرة فيها بعض ما يكره بدافع الغيرة من بعض زوجاته بعد موتها بزمن ، فهب مدافعاً عنها ذاكراً لجميلها، محيياً لبعض فضائلها “صدقتني إذ كذبني الناس، وآمنت بي إذ كفر بي الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وكانت ، وكانت .. وكان لي منها ولد”.
فرضي الله عن خديجة ، وأخذ بنواصي نساء الإسلام ليتخذن منها قدوة وأسوة، وصلى الله وسلم على هذا النبي الوفي الكريم.
علي بن يحيى الحدادي
الرياض