مقال (ثورات العامة مشاهد تاريخية) للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف عرض ونقد
د. ناصر بن غازي الرحيلي
مقال (ثورات العامة مشاهد تاريخية) للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف
عرض ونقد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في كتابه الأصول الستة : ((من أعجب العجاب وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ؛ (ستة أصول) بيَّنَها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون ، ثم بعد هذا غلِط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل)) .
رحم الله الإمام محمد بن عبدالوهاب ، جعل غلَطَ كثير من أذكياء العالم وعقلائهم في الأشياء الواضحة الظاهرة ، جعلها من العجائب ومن دلائل قدرة الله عز وجل وغلبته .
تذكرت هذا الكلام العظيم من الإمام رحمه الله ، وكان أولَ ما تبادرَ إليَّ حينما قرأتُ مقالا للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف بعنوان : (ثورات العامة مشاهد تاريخية) ، وعجبت غاية العجب كيف يصدر من رجل قد بلغ درجة عالية في السُلَّم الأكاديمي ، بل إني لم أكن أتصور أن يكتب هذه الكتابة رجل عاقل ، يميِّز بين الضار والنافع ، وبين الصالح والفاسد .
وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إذ يقول : ((قد يكون الرجل من أذكياء العالم ، وأحدِّهم نظرًا ويُعْمِه اللهُ عن أظهر الأشياء ، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرًا ، ويهديه اللهُ لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه ، فلا حول ولا قوة إلا به ، فمن اتَّكل على نظره واستدلاله ، أو عقله ومعرفته ، خُذِل ) درء التعارض ٣٤/٩ .
ومصداقه في كتاب الله ((من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا)).
وقد تظن أنَّ هذه مبالغة في ذم مقال الدكتور وما وصل إليه عقلُه ، لكنَّك ستعذرني – إن شاء الله – إذا قرأتَ ما كتبه ، ثم قرأتَ الردَّ عليه ، وقد قيل : لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتابًا .
وقد رأيت أن أقدم بثلاث مقدمات مهمة ، ثم أذكر مقال الدكتور كاملا بنصه ؛ ليتصوره القارئ الكريم ، ثم أعلق على المقال بتعليقات مختصرة ، وقد تلحظ فيها قلة الاستدلال بالنصوص الشرعية ؛ لأن المقال المردود عليه لا يوجد فيه استدلال بشيء من الأدلة المعتبرة ، بل إنه لا توجد فيه آية واحدة ، ولا حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
المقدمة الأولى :
لا يقبل الله عبادة أحد إلا إذا توفر فيها شرطان :
١- الإخلاص لله .
٢- والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أكثر الذين يحرصون على الإخلاص في العبادة ، وإذا قيل لهم : إن رجلا يصلي ويصوم رياء ، رأوا أن ذلك من الموبقات ، وخافوا النار على صاحب العمل .
لكن في المقابل : لا تجد أنهم يهتمون بالشرط الثاني وهو المتابعة ، فيعملون ما يريدون ، ولا يهمهم هل وافق الشريعة أم لا ؟ وإذا ذكرت لهم مخالفاتهم نفروا منك وتأولوا لأنفسهم ، فيصير إقرارهم بشرط المتابعة إقرارا نظريًا ، لا أثر له في واقعهم.
ومن ها هنا قال السلف : ليس الشأن أن تُحِب ، وإنما الشأن أن تُحَب .
فكلٌ يدَّعي أنه يريد محبة الله وعبادته ، لكن الامتحان أن تعبد الله بما يحبه هو ، لا بما يوافق نفسك وهواك .
المقدمة الثانية:
حصول النتيجة الحسنة لا يدل على صحة الطريقة .
دليل ذلك : كل الأدلة الدالة على وجوب متابعة الشرع في كل أمورنا ، وكل دليل فيه وصف طريق مشروع أو عمل مطلوب .
ووجه ذلك : أن هذه الطرق المشروعة هي وسائل تفضي إلى نتائج معينة ، وهذه النتائج في كثير من الأحيان لها وسائل أخرى توصل إليها .
فلما عيَّن لنا الشارعُ طرقًا مخصوصة ، وأوجب علينا الأخذَ بها ، دلَّ ذلك على أن ما عداها محرم ، وأنه لا يجوز اتخاذها .
فإرضاء الوالدين أمر مرغَّب فيه شرعًا ، وقد يرضى الوالدان عن الولد إذا أمَراه بالصلاة فأطاعهما ، وقد يرضيان عنه إذا أمراه بالغناء فأطاعهما .
لكن الطريق الأول صحيح يثابُ فاعلُه ، والطريق الثاني باطل يأثم صاحبُه ، وإن اتفقا في النتيجة .
ومن هذا الباب قول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ( فمن قال في القرآن برأيه ، فقد تكلَّف ما لا علم له به ، وسلك غير ما أُمِر به ، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ ؛ لأنه لم يأتِ الأمرَ من بابه ، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، وإن وافق حكمُه الصوابَ في نفس الأمر ، … ، وهكذا سمَّى اللهُ تعالى القَذَفَة كاذبين فقال: “فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون” ، فالقاذف كاذب ، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر ؛ لأنه أخبر بما لا يَحل الإخبار به ، وتكلَّف ما لا علم له به) . مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٧١) .
وهذا كلام حسن بديع .
المقدمة الثالثة :
أمر الله باستخدام الحكمة في الدعوة إليه .
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه الذي يناسبه ، فقد تكون الحكمة في الرفق ، وهذا هو الغالب .
وقد تكون في الشدة ، وهذه تكون فيمن يستحقها .
لذا كان أرحمَ الخلق – محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم – يستخدم الشدة في مواضع ، كما أخرج مسلمٌ في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:(( دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، فكلَّماه بشيء لا أدري ما هو ، فأغضباه ، فلعنهما وسبَّهما)) .
وفيه كذلك من حديث معاذ – رضي الله عنه – أنَّ النبي أخبرهم عام تبوك أنهم سيمرون على عين تبوك وقال : ((فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئا حتى آتي، قال: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء ، قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ” هل مسستما من مائها شيئا ؟ ” قالا : نعم . فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول)) .
لذا ستجد في مقالي نوعَ شدة على الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف ، وفي ظني أنه يستحقها ، لخطر ما هو عليه من منهج وفكر ، ولكثرة افتتان الناس به ، ولأني رأيته يطلق كلمات حادة على بعض من يخالفه من أهل السنة ، كرميهم بالارجاء ، وكوصفه للقائمين على مؤتمر (الجماعة والامامة) في جامعة الإمام بأنهم “عالم خارج التغطية” على حد تعبيره .
وآخر ذلك أنه تلفظ بكلمة قبيحة على رجل من أهل السنة ، فلما أعرض عنه المتكلَّم فيه وطالبه بمناظرة تقوم على ذكر الحجة والبرهان خنس وذلَّ ، فلم يُسمع له صوت ، ولم يُرَ له أثر .
ومع ذلك فإنَّ ما تراه من شدة لا تكون – بإذن الله – إلا في حق ، وإني لأرجو الله أن تكون أشدَّ نفعًا للدكتور ، يجد أثرها في دنياه وآخرته ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله – :(المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة ؛ لكن ذلك يوجب من النظافة ما نحمد معه ذلك التخشين) .
وبعدُ : فإليك مقال الدكتور بنصه :
يقول – هداه الله وبصَّره بنفسه – :
ثورات العامة مشاهد تاريخية
لئن كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يقول عن العامة: «همج رَعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كل صائح»
وكذا الإمام محمد بن أسلم يقول: «احذروا الغوغاء فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء»
فإن معـاوية بن أبي سفيان – رضـي الله عنـه – قـال فـي وصيته لابنه يزيد: اتق صيحة العامة. وكان الإمام الشعبي يقول: نِعمَ الشيء الغوغاء يسدُّون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاء السوء
ومهما يكن فإن لدى العامة من العفوية والإقدام ما ليس لأصحاب الروية والتفكير، كما أن لديهم من نقاء الفطرة وسلامتها ما ليس لمن عالج الشبهات وخالطها ؛ فالجويني ندم على اشتغاله بعلم كلام ثم قال: «ها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور».
والآمدي الأصولي المتكلم يقول: «أمعنتُ النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام».
ولما سئل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – عن شيء من الأهواء (البدع) قال: «الزم دين الصبي في الكتَّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك».
والعالم الرباني يوصف بأنه عالم أمة، فهذا الإمام ابن تيمية كان محبوباً للعامة؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.
وتاريخنا حافل بوقائع تكشف أن للعامة ثورات وشغباً وهيجاناً، وأن لها تأثيراً ظاهراً في سير الأحداث، وحضوراً قوياً في تلك النوازل.
ومن ذلك أن العامة هاجت على بشر المريسي المبتدع (ت 218هـ) وطالبوا الخليفة باستتابته واستجاب الخليفة لهم وأمر باستتابته، وكان الصبيان يتعادون بين يدي جنازة بشر، ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك (يعنون مالكاً خازن جهنم).
ثم إن هؤلاء الأطفال يرمون جنازة بشر المريسي بالحجارة.
والحاصل أن هيجان العامة على ذلك المبتدع المريسي قد تحقق مقصوده؛ إذ أمر الخليفةُ القاضيَّ باستتابة المريسي وتمَّ ذلك.
ومن تلك الثورات أن «المطوِّعين» تجرَّدوا للإنكار على الفساق ببغداد سنة 201هـ؛ حيث استفحل شرُّ الفساق، فكانوا يختطفون النسوان والغلمان علانيةً، واللصوص يسرقون وينهبون ثم يبيعونه وضح النهار! فطالب الأهالي السلطان أن يكفَّهم فلم يجبهم.
فقام رجل يقال له: خالد الدريوس، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنَع الفساق وعزَّر السرَّاق ورفعهم إلى السلطان.
ثم قام رجل آخر يقال له: سلامة الأنصاري ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتَبعَه عامة الناس، ومَنَع المنكرات، لكن أفرط في ذلك إذ قاتل كلَّ من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان سلطاناً أو غير سلطان. فجهز له الخليفة العساكر فغلبه وانحلَّ أمره سنة 202هـ.
وما فعله المحتسب الأول كان نافعاً في تحقيق الأمن وزوال الفساد، وأما ما صنعه «سلامة» فلم يكن سليماً ولا سديداً؛ فلا يتفق مع النصوص الشرعية ولا القواعد المرعية، ثم إنه حمَّل نفسه وأصحابه ما لايطيقون، فأفضى ذلك إلى انحلال أمرهم واندراس احتسابهم.
ويبدو أن الأوضاع المضطربة قد تبعث إلى الاندفاع والاسترسال، وتجرُّ لمواقف غير محررة كما في هذه الحادثة التي أودت بالاحتساب.
وهذا يذكِّرنا بفتنة ابن الأشعث سنة 81هـ؛ حيث لم يقتصر ابن الأشعث الكندي ومَن تبعَه على خلع الحَجَّاج الثقفي حتى تجاوزوه إلى خلع الخليفة عبد الملك بن مروان القرشي، ثم نفروا من مصالحة الخليفة على عزل الحجاج. فأعقب هذه الفتنة شرٌّ كبير، وهلك خلق كثير، وتولَّد عنها الإرجاء.
وسطَّر ابن خلدون كلاماً متيناً بشأن تعثُّر الثوار القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأورد حكاية سلامة الأنصاري وكثرة
أتباعه من العامة والدهماء الذين تجمعهم هذه الدعوة الدينية، لكنهم يفتقدون إلى القبائل والعشائر الذين تذبُّ عنهـم، فابن خلـدون يجزم أن الدعـوة الدينيـة لا تتم من غير عصبية أو قبيلة تنتصر لهم، وأن هؤلاء الثوار القائمين بتغيير المنكر يعرِّضون أنفسهم للمهالك؛ فالدول القوية لا يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما عبَّر ابن خلدون.
ومن ثورات العامة أن في سنة 308هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد فاضطربت العامة لذلك وأوقعوا شغباً…وعندئذٍ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار.
فهيجان العامة آنذاك كان سبباً في زوال الضرائب ورخص الأسعار.
وفي سنة 227هـ خرج رجل بالشام يُقال له: أبو حرب المبرقع اليماني لما اعتدى أحد الجنود على امرأته، فقَتَل أبو حرب ذلك الجنديَّ، ثم تحصَّن في الجبال، واتبعه على ذلك خلق كثير من الفلاَّحين والحراثين، وبلغ أتباعُه قرابة مائة ألف مقاتل، فلما حان وقت حراثة الأرض تفرَّق عنه الناس إلى أراضيهم! ولم يبقَ معه إلا شرذمة قليلة فتمَّ أسره والذهاب به إلى الخليفة العباسي المعتصم.
فما أسرع استجابة الحرَّاثين حال الفراغ والبطالة، وما أعجل تنصُّلهم وقت الحرث، وركونهم للزرع!
ومن ثورات العامة أن في سنة 403هـ في عهد الخليفة العباسي القادر بالله توفيت زوجة أحد رؤساء النصارى ببغداد فأُخرجت جنازتها ومعها الطبول والصلبان، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فثار المسلمون، ووقع شغب وقتال، وانتشرت الفتنة، وغلِّقت جوامع، ثم أُخِذ هذا النصراني لدار الخلافة فسكنت الأمور.
ويبدو أن هذه الحادثة كانت سبباً في إلزام النصارى بالشروط العمرية، وفيها: «لا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر صليباً».
وقد أحسن الخليفة القادر بالله بإحيائه هذه الشروط التي جددها الخلفاء السابقون أمثال: عمربن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والمتوكل.
وكان عهدالقادر لا يخلو من أحداث تحكي شغب النصارى، وبغيَهم على المسلمين، وظلمَ بعض عامة المسلمين للنصارى، لكن بإلزام النصارى الشروط العمرية سنة 403 هـ اختفى الشغب واستقرت الأحوال، كما اعترف بذلك جان موريس فييه أحد النصارى المعاصرين.
والحاصل أن هيجان العامة و ثوراتهم كانت سبباً في ظهور الشروط العمرية واستقرار الأحوال وتحقق العدل.
وفي سنة 429 هـ أمر جلال الدولة أن يلقَّب بـــ «شاهنشاه»[20] وخُطِب له بذلك على المنابر، فنفر العامة ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة شديدة، فاستفتى الفقهاء، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون.
والمقصـود أن العـامة بفطـرتهم نفـروا من منـازعـة اللـه – تعالى – في أسمائه وما يختص به، وهو ما جعل السلطان يستفتي العلماء في هذا اللقب.
والحاصل أن للعامة تأثيراً بيِّناً في الشغب على ولاة السوء، والهيجان على أهل الكفر والابتداع، فسذاجة العامة وعفويتهم تبعث على الشجاعة والإقدام، مع ما قد يكتنفها من البغي والعدوان، والولوج في مزالق لا يطيقونها، كما أنهم قد ينفضُّون سريعاً كما وقع لأتباع أبي حرب المبرقع.
وبالجملة فالعامة يمكن أن يحققو مكاسب للأمة، وإنجازات لبلادهم، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير، والثورات الحاضرة خير شاهد على ذلك.
::: مجلة البيان – عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ
والرد على مقال الدكتور ألخصه في نقاط :
١- يريد الدكتور من مقاله تحريضَ العامّة وغيرهم على الخروج على ولاة أمورهم ، يدل على ذلك أنه قال في آخر مقاله ملخصا له : (والحاصل أن للعامة تأثيراً بيِّناً في الشغب على ولاة السوء) وقوله كذلك (وبالجملة فالعامة يمكن أن يحققوا مكاسب للأمة، وإنجازات لبلادهم، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير ) ثم استدل على صحة قوله بما حدث من الثورات في هذه الأيام .
وهذا لا يُستغرب من مثل الدكتور ، فهو المعجَب والمغرَم بكتابات الخارجي الكويتي حامد العلي ، ولذا يكثر من نقل تغريداته على صفحته في تويتر ، وقد كان بود العلي – لو كان الأمر بيده – أن يجعل المظاهرات والاحتجاجات والخروج مما يدرسه الأبناء والبنات في مدارسهم ، وفي مختلف المراحل ، حيث يقول كما في مقاله (مفاهيم سياسيـّة يجب أن تصحَّح) : ((ولو كان الأمر بيدي لجعلت هذه المفاهيم في العقيدة السياسية الإسلامية ، تُدرَّس لطلاب العلوم الشرعية ، مع تدريبهم على إدارة المشهد السياسي من الحوارات إلى المعارضة ، مرورًا بدورات تنظيم المظاهرات ، ووسائل الإحتجاج السلمي)) .
٢- بغضِّ النظر عن صحة أو بطلان ما يدعو إليه الدكتور في مقاله ، فهل يصح لأحد أن يستدل لمسألة كبيرة كهذه بوقائع تاريخية لا يعلم لها سند ، ومن أناس مجهولين لا يُدرى لعلهم كانوا لا يعرفون من السنة شيئا ، بل وكما وصفهم الدكتور بأن فيهم “سذاجة وعفوية وبغيًا وعدوانًا” ! .
إن المتحدِّث لو تحدَّث في مسألة في الطهارة ولم يذكر لها دليلا شرعيًا لَعابه الناسُ على ذلك ، فكيف يتحدَّث في مسألة يترتبُ عليها سفك دماء وهتك أعراض واختلال أمن بهذه القصص التاريخية !!
٣- الله – جل وعلا – فضَّل أهل العلم على أهل الجهل فقال(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وأثنى على أهل العقول فقال(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ، وأمر رسوله بالإعراض عن الجاهلين فقال (وأعرِضْ عن الجاهلين) ومدح المؤمنين بذلك فقال (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أشج عبد القيس وقال: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة)) ، ونهى رجلا عن الغضب لأنَّ به يحصل الطَّيْش والسفه ، وقد لا يتحكّم الرجل معه في أقواله وأفعاله ، فيخرج منه ما لا يُحمد .
ولم يخطر في بال أن يحتاج عاقل إلى الاستدلال على تقرير ما تقدم ، إلا أن الدكتور – هداه الله – اضطرَّنا إلى ذلك ،
فها هو يقول (ومهما يكن فإنَّ لدى العامة من العفوية والإقدام ما ليس لأصحاب الروية والتفكير) ويقول مادحًا (فسذاجة العامة وعفويتهم تبعث على الشجاعة والإقدام ، مع ما قد يكتنفها من البغي والعدوان ، والولوج في مزالق لا يطيقونها) ، ويقول كذلك : (فالعامة يمكن أن يحققوا مكاسب للأمة، وإنجازات لبلادهم، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير) .
ولا يقولن قائل : إن التفضيل الذي يقصده الدكتور تفضيل جزئي لا كلي ، فإن هذا يرده أمران :
أ- أن الدكتور ذكر هذه الكلمات في معرض الاحتجاج والاستدلال ، وهذا لا يكون في التفضيل الجزئي ، ولو ادعى الدكتور غير هذا فيقال له : فما فائدة مقالك إذن ، وما فائدة هذه القصص التي ذكرت ؟
ب- أننا لو صححنا كلام الدكتور وسوغناه للزم أن نسوغ مقالا فيه مدح الخمر وبيان منافعها وأنها قد تحمل صاحبها على الشجاعة .
وهكذا في معاصي وكبائر كثيرة ، فإنك لا تكاد تجد محرما إلا وفيه منافع ومصالح جزئية ، ولذلك يفعله مَن يفعله ، ولكن العبرة بالنظر إلى ما غلبت فيه المنافع فيؤخذ ، وما غلبت فيه المفاسد فيترك ، مع النظر في الحكم الشرعي وموافقته في الجميع.
٤- قال الدكتور ( فإن معـاوية بن أبي سفيان – رضـي الله عنـه – قـال فـي وصيته لابنه يزيد: اتق صيحة العامة.)
أقول: أتمدح صيحة العامة لأن معاوية – رضي الله عنه – حذَّر ابنه منها ؟
أيقول هذا عاقل ؟
إنَّ التحذير من الشيء لا يستلزم صحته ، فقد أحذِّر من سب آلهة المشرك لئلا يسب الربَّ – جل جلاله – ، وليس هذا دليلا على صحة فعل من سب الإله ، والشرعُ حذَّرنا من الكفار ، وليس هذا دليلا على حسن ما هم عليه ، وكذلك حذّرنا من جميع المحرمات وليس هذا دليلا على حسنها في نفسها .
٥- قال الدكتور : (ومهما يكن فإن لدى العامة من العفوية والإقدام ما ليس لأصحاب الروية والتفكير)
قلت : وإذا كان الأمر كذلك فما الواجب علينا ؟
تعليمهم وتحذيرهم من عدم التعقل ، أو تشجيعهم على هذا؟
أترك الجواب للدكتور .
٦- قال الدكتور : (كما أن لديهم من نقاء الفطرة وسلامتها ما ليس لمن عالج الشبهات وخالطها)
ما المراد بـ(من عالج الشبهات وخالطها)؟
هل المراد من دخلت في قلبه الشبهة وظنَّها حقا ؟
أو المراد من عرف الشبهة من أهل العلم ورد عليها ؟
فإن كان المراد الأول : فما فائدة ذكر هذا في هذا السياق – وهو أن عند بعض العامة ما ليس عند بعض أهل الفكر والروية – ؛ فإن من دخلت عليه الشبهة لا يوصف – ولو في هذا الأمر – أنه من أهل الفكر والروية .
وإن كان المراد الثاني – وهو من عرف الشبهة وردَّها – : فما فائدة ذكر قصة الجويني بعدها ؟ إذ أنه لمَّا كان ضالا لم يكن يعرف بطلان الشبهة ومخالفتها للحق .
ثم إنه إذا أراد المعنى الثاني فيلزم منه لازم باطل ، وهو أن عدم العلم بالشبهة خير من العلم بها ومعرفة ضعفها ، وهذا مخالف لطريقة القرآن ؛ حيث ذكر حجج المبطلين و ردَّ عليها ، فهل يقول الدكتور : إن عدم ذكر حجة المخالِف في القرآن كان هو الأوْلى؟
وكذلك هو مخالفٌ لقول عمر – رضي الله عنه – : (إنما تُنقَضُ عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) وقول حذيفة – رضي الله عنه – (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ) ويقتضي هذا التقرير أن العامي من الناس خير من العالم الذي عرف أقوال المخالفين و ردَّ عليها !
٧- قال الدكتور: (والعالم الرباني يوصف بأنه عالم أمة ، فهذا الإمام ابن تيمية كان محبوباً للعامة ؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً ، بلسانه وقلمه ).
قلت : أيها القارئ الكريم : لا تتهم عقلك إذا لم يتبين لك وجه ذكر هذا الكلام في هذا الموضع ؛ فالعيب ليس فيك .
٨- قال الدكتور : ((وتاريخنا حافل بوقائع تكشف أنَّ للعامة ثورات وشغباً وهيجاناً ، وأن لها تأثيراً ظاهراً في سير الأحداث، وحضوراً قوياً في تلك النوازل)) .
أقول : وتاريخنا حافل بوقائع تكشف أن للعامة ثورات وشغبا وهيجانا ، فمنهم من خرج على عثمان ومنهم من خرج على علي ومنهم من قطع الطريق ومنهم من عمل بالمعاصي والموبقات .
فكلام الدكتور مجمل لا يبين حقا ولا يرد باطلا .
٩- قال الدكتور: “ومن ذلك أن العامة هاجت على بشر المريسي المبتدع (ت 218هـ) وطالبوا الخليفة باستتابته واستجاب الخليفة لهم وأمر باستتابته ، وكان الصبيان يتعادون بين يدي جنازة بشر، ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك (يعنون مالكاً خازن جهنم).
ثم إن هؤلاء الأطفال يرمون جنازة بشر المريسي بالحجارة … “.
قلت : ليس هذا محلا للنزاع ، وأن الناس يجب عليهم هجران أهل البدع والتغليظ عليهم ، ورفع أمرهم إلى السطان – إن اقتضت المصلحة – ، ولكن النزاع هل يصح شغب العامة على ولاة أمورهم ، وهو ما يريده الدكتور من مقاله .
وكذلك يقال في قصة خالد الدريوس التي ذكرها الدكتور .
١٠- قال الدكتور : (ثم قام رجل آخر يقال له: سلامة الأنصاري ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتَبعَه عامة الناس ، ومَنَع المنكرات، لكن أفرط في ذلك إذ قاتل كلَّ من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان سلطاناً أو غير سلطان. فجهز له الخليفة العساكر فغلبه وانحلَّ أمره سنة 202هـ ) .
نرجع ونسأل : فهل نحذر من هذا الفعل وما يؤدي إليه ، أو نرضى بالواقع ونقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ؟
١١- قال الدكتور : (وأما ما صنعه «سلامة» فلم يكن سليماً ولا سديداً ؛ فلا يتفق مع النصوص الشرعية ولا القواعد المرعية، ثم إنه حمَّل نفسه وأصحابه ما لايطيقون، فأفضى ذلك إلى انحلال أمرهم واندراس احتسابهم) .
قلت: وهذا الذي يحذر منه الغيورون الذين ينكرون عليك وعلى أمثالك ، لكنكم لا تستجيبون ، وفي كثير من الأحيان : لا تريدون أن تستجيبوا.
وما مَثَل من يجوّز الخروج والمظاهرات على الحكام ، ثم يزعم أنه ينهى عن ما يحصل فيها من شر وعدوان ، ما مثله إلا كما يقول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
١٢- قال الدكتور : (ويبدو أن الأوضاع المضطربة قد تبعث إلى الاندفاع والاسترسال ، وتجرُّ لمواقف غير محررة كما في هذه الحادثة التي أودت بالاحتساب).
أكرر السؤال : فهل نحذر من هذا الاندفاع والاسترسال والمواقف غير المحررة؟
وكلام الدكتور هذا يذكرني بنقاش حصل لي مع بعض من يخالف السلف ويجوّز الانكار العلني على الوالي ، وكان الكلام في قضية الموقوفين أمنيًا وأنهم لم يُحَاكموا ، فذكرت له أدلة بطلان قوله وبيَّنت مفاسد الإنكار العلني ، فلما رأى كثرة الأدلة ولم يستطع ردها قال : نحن إنما نطالب بمحاكمة الموقوفين لئلا يؤدي عدمُ محاكمتهم إلى الحقد على الدولة وبغضها ومن ثم الخروج عليها !
فقلت له : ولو حصل هذا وملئت القلوب حقدا على الدولة وخرجوا ، فهل يكونون مصيبين ؟ أم يكونون مخطئين وكان الواجب عليهم الصبر ؟
فقال – وقد أخذ شهقة لا بأس بها – : بل مخطئين .
ولذا لا يغتر سني بقول من يقول : إنما تكلمنا خوفًا على الدولة ، وحرصًا على مصلحتها ؛ فإنهم لو كانوا صادقين لنشروا أحاديث السمع والطاعة بين الناس ، وأشاعوها وأكثروا ذكرها ، وهو ما لا يفعلونه .
١٣- قال الدكتور: وهذا يذكِّرنا بفتنة ابن الأشعث سنة 81هـ؛ حيث لم يقتصر ابن الأشعث الكندي ومَن تبعَه على خلع الحَجَّاج الثقفي حتى تجاوزوه إلى خلع الخليفة عبد الملك بن مروان القرشي، ثم نفروا من مصالحة الخليفة على عزل الحجاج. فأعقب هذه الفتنة شرٌّ كبير، وهلك خلق كثير، وتولَّد عنها الإرجاء.
قلت : ألا تكون هذه القصة عبرةً لك ولأمثالك فتحذروا من تهييج العامة على ولاتهم ، أليس ابن الأشعث قد خرج على الحجاج بن يوسف – وهو من هو في الشر والقتل والفساد – ! ، لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور .
١٤- قال الدكتور : (وسطَّر ابن خلدون كلاماً متيناً بشأن تعثُّر الثوار القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأورد حكاية سلامة الأنصاري وكثرة أتباعه من العامة والدهماء الذين تجمعهم هذه الدعوة الدينية)
أكرِّر – وليعذرني القارئ الكريم – :
فعْلُ سلامة هذا ومن تبعه هل هو جائز شرعا أم لا؟
أجاب عنه الدكتور قبل أسطر بقوله : (وأما ما صنعه «سلامة» فلم يكن سليماً ولا سديداً ؛ فلا يتفق مع النصوص الشرعية ولا القواعد المرعية )
فإذا كان كذلك فلماذا يسمِّي الدكتور دعوة سلامة هذا دعوةً دينية ؟
إن الجواب على هذا التناقض إنما هو لأن الدكتور لا ينظر في الوسائل ولا يهمه أكانت الوسيلة شرعية أم لا ، بل ينظر إلى النتائج والمصالح التي يتوهم حصولها ، وهو خطأ ؛ فإنه كما تقدَّم : حصول النتيجة الحسنة لا يدل على صحة الطريقة .
١٥- قال الدكتور: (فالدول القوية لا يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما عبَّر ابن خلدون) .
ماذا يريد الدكتور بهذا الكلام؟
أيريد عصبية قبلية تنتشر بيننا تؤدي إلى سقوط حكومتنا ، أم ماذا يريد ؟
وهل يعلم أن الخوارج ما استطاعوا الخروج على عثمان – رضي الله عنه – ومن ثَم قتله إلا بعد أن صارت لهم قوة وشوكة ؟
ألا يعتبر بما نقله عن محمد بن أسلم رحمه الله: “احذروا الغوغاء ؛ فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء” ؟
ألا يشكر اللهَ على ما نحن فيه من نعمة وأمن وتآلف ؟
ألا يرى أن السنّة ظاهرة في بلادنا ، وأهلها يعبدون الله فيها بطمأنينة وأمان ،
بل –واللهِ – هم المقدَّمون والمُكْرَمون من العامة والخاصة .
ليس الشأن أن تكون لك قوة عند الخروج أو لا، وإنما الشأن في كون الخروج جائزا أم لا .
إني أخشى أن يكون بعضنا وقع فيما ذكره الله عن من سبقنا من الأمم التي كفرت بنعمة الله ولم تشكرها ، كقوم سبأ لما كفروا نعمة الجنتين ودعوا أن يباعد الله بين أسفارهم ،
وكقوم موسى لما من الله عليهم بالمن والسلوى فأرادوا أدنى منهما بقل الأرض وقثائها وفومها وعدسها وبصلها .
فاللهم لك الحمد على نعمك ، ولا تؤاخذنا ربنا بما يصنع السفهاء منا .
١٦- قال الدكتور: (ومن ثورات العامة أن في سنة 308هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد فاضطربت العامة لذلك وأوقعوا شغباً…وعندئذٍ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار ، فهيجان العامة آنذاك كان سببًا في زوال الضرائب ورخص الأسعار) .
تقدَّم أن حصول النتيجة الحسنة لا يدل على صحة الطريقة.
وهل إحداث الشغب وما يصحبه – عادةً – من اعتداءات وتجاوزات مما تقرُّه الشريعة وتأمر به ؟
١٧- قال الدكتور : (وفي سنة 227هـ خرج رجل بالشام يُقال له: أبو حرب المبرقع اليماني لما اعتدى أحد الجنود على امرأته ، فقَتَل أبو حرب ذلك الجنديَّ، ثم تحصَّن في الجبال، واتبعه على ذلك خلق كثير من الفلاَّحين والحراثين، وبلغ أتباعُه قرابة مائة ألف مقاتل، فلما حان وقت حراثة الأرض تفرَّق عنه الناس إلى أراضيهم! ولم يبقَ معه إلا شرذمة قليلة فتمَّ أسره والذهاب به إلى الخليفة العباسي المعتصم )ا.هـ.
سبحان من يضل من يشاء من عباده بحكمته ، كيف يستدل الرجل على ما يريد بفعل بان خطؤه شرعًا وواقعًا ، وحصل منه من المفاسد أضعاف ما وقع من المنكر الذي أُريد إنكاره !
١٨- قال الدكتور : (ومن ثورات العامة أن في سنة 403هـ في عهد الخليفة العباسي القادر بالله توفيت زوجة أحد رؤساء النصارى ببغداد فأُخرجت جنازتها ومعها الطبول والصلبان، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فثار المسلمون، ووقع شغب وقتال، وانتشرت الفتنة، وغلِّقت جوامع، ثم أُخِذ هذا النصراني لدار الخلافة فسكنت الأمور ).
١٩- قال الدكتور : (وفي سنة 429 هـ أمر جلال الدولة أن يلقَّب بـــ «شاهنشاه»وخُطِب له بذلك على المنابر، فنفر العامة ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة شديدة، فاستفتى الفقهاء، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون) .
وهذه والتي قبلها يجاب عنها بما تقدم من الجواب في النقطة رقم (16) .
٢٠ – قال الدكتور – وهو من أعجب ما في مقاله – : ( والحاصل أن للعامة تأثيراً بيِّناً في الشغب على ولاة السوء، والهيجان على أهل الكفر والابتداع، فسذاجة العامة وعفويتهم تبعث على الشجاعة والإقدام، مع ما قد يكتنفها من البغي والعدوان، والولوج في مزالق لا يطيقونها، كما أنهم قد ينفضُّون سريعاً كما وقع لأتباع أبي حرب المبرقع) . فهل يا دكتور ما وصفته من حال العامة من السذاجة والعفوية ومن البغي والعدوان ، والولوج في مزالق لا يطيقونها ، هل هذا مما يحمد أو يذم ؟
فاللهم إنا نعوذ بك من قلوب لا تفقه ، وعقول لا تنفع .
٢١- ثم قال – هداه الله – : (وبالجملة فالعامة يمكن أن يحققوا مكاسب للأمة ، وإنجازات لبلادهم ، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير ).
أقول : ويمكن أن يسببوا فسادا وشرا ، ويجروا ويلات ومصائب .
لا أدري كيف يفكر الدكتور !
٢٢- وقال كذلك : (والثورات الحاضرة خير شاهد على ذلك ) .
الجواب :
أ- تقدَّم أن حصول النتيجة الحسنة لا يدل على صحة الطريقة ، فأولا أثبت لنا جواز المظاهرات بدليل معتبر ، ثم حدثنا عن النتيجة .
ومن أفضل ما كتب في بيان حرمة المظاهرات مقال بعنوان : كشف شبهات مجوزي المظاهرات ، تجده على الرابط التالي :http://islamancient.com/play.php?catsmktba=3073
وكذلك مقال بعنوان : حكم المظاهرات تجده على الرابط التالي : http://www.tbessa.net/t10408-topi
ب- أن قراءة واقع الثورات قديما وحديثا يبيّن بوضوح أن الثورات لا تجلب للأمة إلا الشر والفساد، وأن ما قد يتوهم من بعض المصالح هو مغمور في بحر كبير من المفاسد ، ولا ينكر هذا إلا من فسدت حواسه فلم ينتفع بها ، وكما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل .
قال شيخ الاسلام رحمه الله: (ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته)
وكلام أهل العلم في هذا كثير ، ولولا خشية الإطالة لنقلت شيئا منه .
وإن النظر في واقع الثورات القائمة اليوم في تونس ومصر واليمن ليدرك هذا بداهة .
وإليك مقطعا مؤثرا في بيان ضرر هذه الثورات وما خلفته من ويلات ومصائب ، وكيف أن أهلها ندموا على فعلهم ، وفي المقطع كلام رائع للعلامة ابن عثيمين رحمه الله: http://www.youtube.com/watch_popup?v=nGIdmVeW7FE&feature=youtube_gdata_player
وأخيرا أنبه على أن من أسباب الخطأ في هذا الباب الاعتماد على العقول المجردة ، وجعلها حاكمةً على الأفعال من جهة المصالح والمفاسد ، فرُدَّت نصوص بزعم أن المصلحة في غيرها ، وقد جاءت الشريعة بجلب المصالح وتكثيرها !
وهذا المسلك لا يصح ، وقد كتبت فيه مقالا بعنوان : [الجواب على من رد أحاديث السمع والطاعة واحتج على قوله بالمصلحة]
طالعه -إن شئت- على هذا الرابط : http://islamancient.com/play.php?catsmktba=101782 .
أسأل الله للجميع العلم النافع ، والعمل الصالح .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه : ناصر بن غازي الرحيلي .
المدرس في قسم العقيدة في الجامعة الاسلامية .