يقول بعض الدعاة أن الاختلاط غير محرم إن كان بضوابطه ، وإنما المحرم هو الخلوة..فما جوابك؟
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
يقول السائل: يقول بعض الدعاة: إن الاختلاط غير محرم إذا كان بضوابطه وبغير تبرج وخضوع في القول، أو خلوة، وإنما الخلوة هي المحرمة، ودليلهم: أن النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كن يعملن في التجارة والزراعة وغيرها، مما فيه اختلاط دون وجود نص صريح ينهى عن ذلك، وأن المحرِّمين له لا يستندون على نص صريح، وإنما على آراء واجتهادات فقهية لا دليل صريح عليها، فما جوابك؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: إن الاختلاط لفظ مجمَل، وبسبب الإجمال في لفظه حصل لبس عند كثير من المعاصرين، ومن جهة أخرى استغل ذلك دعاة الشهوة والانفلات.
وذلك أن مطلق الاختلاط ليس محرمًا، ولا يقول عالم: إن كل اختلاط محرم، وإنما المحرم هو الاختلاط الذي يؤدي إلى المحرم، سواء كان يؤدي إلى المحرم من باب اليقين أو غلبة الظن ، هذا هو الاختلاط المحرم، أما الاختلاط الذي لا يؤدي إلى المحرم إلا نادرًا، فمثل هذا ليس محرمًا.
فإذًا ينبغي أن يُعلَم أن مطلق الاختلاط ليس محرمًا، وإنما المحرم نوع من الاختلاط وهو ما يؤدي إلى المحرم كثيرًا، أو من باب غلبة الظن، أو من باب اليقين من باب أولى، وما كان كذلك فهو محرم.
وقد توارد علماء المذاهب الأربعة بالنص على حرمة الاختلاط، بل نقل ابن القطان في كتابه “أحكام النظر” عن أبي بكر محمد بن عبد الله العامري، أنه قال: اتفق العلماء، – علماء الأمة- أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان أجانب فقد كفر، أو استَحَقَّ القتل بردته، وإن اعتقد أحدهم وهو فعله وأقر عليه ورضي به فقد فسق، لا يسمع منه قول، ولا تقبل له شهادة”.
هذا صريح في أن الاختلاط الذي يحرمه العلماء هو ما يؤدي إلى المحرم كثيرًا أو غالبًا، أن هذا محرم بإجماع العلماء.
فإذًا إذا تبين أن العلماء متواردون على هذا، وأن في المسألة إجماعًا فلا يصح لأحد أن يخالف ذلك، فمن خالفه فهو مخطئ قطعًا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فلا بد من اتباع سبيل المؤمنين، قال -سبحانه وتعالى-: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115].
إذًا إذا عُلم أن مطلق الاختلاط ليس محرمًا، وإنما المحرم الاختلاط الذي يؤدي إلى المحرم كثيرًا أو غالبًا، وما كان من باب اليقين من باب أولى.
ينبغي أن يُعلم شيء آخر، وهو أن الاختلاط المحرم هو من باب الوسائل، وقاعدة الشريعة إن ما حُرم من باب الوسائل يجوز في المصلحة الراجحة.
ولذلك الشريعة التي نهت عن الاختلاط قد سمحت بصور من الاختلاط إما لأنه لا يؤدي إلى المحرم كثيرًا، أو أنه يؤدي إلى المحرم كثيرًا، لكن جاز للمصلحة الراجحة، وهذه أمور علمية دقيقة لا يفقهها كل أحد، لذا لا ينبغي أن يتجشم هذه المسائل، وأن يخوض فيها من ليس متمكنًا في العلم الشرعي.
وينبغي أن يعطى القوس لباريها، وأن ويوكل العلم لعالمه، ولا يخوض في هذه المسائل كل من هب ودب، بجهل أو بشهوة وبتعالم وغير ذلك، بل ينبغي أن نكل الأمر إلى أهله، وأن نكل العلم إلى عالمه.
وللأسف! كثير من دعاة الشهوات ودعاة الشهرة، ومن الدعاة المنهزمين الذين يتقربون إلى أولئك، وإلى غيرهم، صاروا يخوضون هذه المسائل، ويسهلون فيها إتباعًا لأصحاب الشهوات، حتى لا يقال عنهم إنهم متشددون، ولا أنهم منغلقون إلى غير ذلك من عبارات.
لذا ينبغي أن تفصل في هذه المسائل، وليُعلم أن الاختلاط المحرم هو ما يؤدي إلى المحرم إما غالبًا أو كثيرًا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: الشريعة التي حرمت الاختلاط جعل التحريم من باب الوسائل، والقاعدة الشرعية إن ما منع من باب الوسائل فإنه يجوز للمصلحة الراجحة.
وهؤلاء لا يفرقون بين أمثال هذه المسائل، فتراهم يأتون إلى اختلاط لا يؤدي إلى الحرام لا غالبًا ولا كثيرًا، فيستدلون به على جواز الاختلاط، أو يأتون إلى اختلاط يؤدي إلى المحرم من باب الغالب أو كثيرًا وأجازته الشريعة من باب المصلحة الراجحة، فلا يلتفتون لهذا المعنى ويجعلون مجرد وجود هذا الاختلاط ومجرد إجازة الشريعة له دليلًا على أن الاختلاط جائز مطلقًا.
وهذا كله خطأ، ويكفي أن يعلم المنصف أن علماء المذاهب الأربعة، بل إن العلماء مجمعون على حرمة الاختلاط، كما تقدم بيان ذلك، فمن ادعى خلاف ذلك فهو مخطئ، ويجب أن يرجع، وأن يتقي الله -عز وجل-؛ لأنه لا سلف له في ذلك إلا أصحاب الشهوات والجهل، أسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وقد سبق ورددت على رجل مغرور، قد هلك في عُجبِه وغروره وحبه للشهرة، وجوز الاختلاط بشبه متهافتة، وبأدلة متوهمة ساقطة، واسمه أحمد الغامدي، رددت عليه في درسٍ مسجَّلٍ، وهو موجود في “موقع الإسلام العتيق”، فمن أراد المزيد في هذه المسألة فليرجع إلى ذلك.
وقد بسطت الكلام على مسألة الاختلاط في آخر رسالتي للدكتوراة” أحكام العورات في الفقه الإسلامي”، وأطلت الكلام في ذلك، ولعل الكتاب يطبع إن شاء الله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمنا ما يَنْفَعَنَا، وأن يَنْفَعَنَا بما علَّمَنا، وجزاكم الله خيرا.