إلا شيخ الإسلام يا دكتور عائض !

د. عمر بن عبدالرحمن العمر

طالعت ما كتبه الدكتور أحمد الفراج في عدد الجزيرة (14368) وتاريخ 7-3-1433هـ بعنوان (عذراً شيخ الإسلام)، وقد أجاد فيه وأفاد، ونحن نقول معه أيضاً: عذراً شيخ الإسلام، ثم عذراً شيخ الإسلام من مقولة الدكتور عائض القرني – هداه الله – الذي انتقص من قدرك العالي، واتهمك بما أنت براء منه تبريراً لفعلته التي كشفت الغطاء، وأظهرت المستور. وإتماماً لما ذكره الدكتور أحمد، ودفاعاً عن شيخ الإسلام، وإيضاحاً لحجم التهمة والفرية التي ذكرها الدكتور عائض انتصاراً لنفسه، فإنني أذكر شيئاً يسيراً من ثناء العلماء على سعة علم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وتبحره في شتّى العلوم والفنون. بداية أذكر قول الحافظ ابن عبدالهادي -رحمه الله – عنه: «سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبدالقوي، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك. هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة؛ فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه، وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء – غالباً – إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، ولم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة».

وكان – رحمه الله – حسن الاستنباط، قوي الحجة، سريع البديهة، قال عنه البزار – رحمه الله -: «وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثاً، وبين معانيه، وما أريد فيه، يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه».

ومما يدل على سعة علمه مؤلفاته العظيمة التي يصعب إحصاؤها. قال الحافظ البزار – رحمه الله -: «وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد؛ لأنها كثيرة جداً، كباراً وصغاراً، أو هي منشورة في البلدان؛ فقلَّ بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه».

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -: «وأما تصانيفه – رحمه الله – فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر، سارت سير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها».

وذكر ابن عبدالهادي – رحمه الله – أن أجوبة الشيخ يشق ضبطها وإحصاؤها، ويعسر حصرها واستقصاؤها، لكثرة مكتوبه، وسرعة كتابته، إضافة إلى أنه يكتب من حفظه من غير نقل؛ فلا يحتاج إلى مكان معين للكتابة، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردوا خطي وأظهره لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه.

قال العلامة كما الدين بن الزملكاني: «كان إذا سُئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها، إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين».

وأما ثناء الإمام الذهبي على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فهو كثير، ومنها قوله: «ابن تيمية: الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط».

وقوله: «… ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين والنبالة، والذكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف».

وختاماً أقول: كيف يُتَّهم شيخ الإسلام بالسرقة من كتب الغير؟! وقد قال عنه ابن دقيق العيد – رحمه الله -: «لما اجتمعتُ بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد».

رحم الله شيخ الإسلام، وجزاه الله خير الجزاء على نصرته لعقيدة أهل السنة وتجديده للملة، وجمعنا به ووالدينا ومشايخنا في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً.

عمر بن عبدالرحمن العمر – مدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالثمامة


شارك المحتوى: