صيام شهر شعبان .. فضائل وأحكام

د. سليمان بن سليم الله الرحيلي

( صيام شهر شعبان .. فضائل وأحكام )

للشيخ أ.د. سليمان بن سليم الله الرحيلي

إن الله خلق الإنسان لعبادته، يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون}.

وجعل الله -عز وجل- طيب الحياة والهناء والسعادة لمن أطاعه وعبده، يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}.

وقد جعل ربنا -سبحانه وتعالى- العبادة أنواعًا، وجعل منها فرائض ونوافل، وإن من أحب العبادات إلى الله عز وجل الصيام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي).

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصيام جنة)، وفي رواية: (الصوم جنة من النار).

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (للصائم فرحتان: فرحة حين فطره، وفرحة حين يلقى ربه).

وقال أبو أمامة -رضي الله عنه-: (يا رسول الله؛ مرني بأمر أحمله عنك -وفي رواية: مرني بأمر ينفعي-. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له).

وإنكم -يا عباد الله- عما قريب ستدخلون في شهر من شهور الصيام، ستدخلون في شهر يُستحب فيه -يا عباد الله- أن نكثر من الصيام فيه، إنه شهر شعبان الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الصيام فيه.

تقول أمنا عائشة -رضي الله عنها-: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منهم في شعبان).

وتقول -رضي الله عنها-: (لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان).

وتقول رضي الله عنها: (كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصوم شعبان، بل كان يصله برمضان).

وقد جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصوم شعبان كله:

فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم كله، وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا).

وقالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم شعبان كله).

وقالت -رضي الله عنها-: (كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصوم شعبان، ثم يصله برمضان).

وقالت -رضي الله عنها-: (ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم في شهر ما كان يصومه في شعبان، كان يصومه إلا قليلًا، بل كان يصومه كله).

وعن أمنا أم سلمة -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: (ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان).

وعنها -رضي الله عنها- قالت: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان لا يصل شعبان برمضان).

وعنها -رضي الله عنها- قالت: (لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان، ويصل به رمضان).

وجاء الجمع يا عباد الله بين صيامه لأكثره وصيامه له كله في حديث واحد:

فعن أمنا عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه لشعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا).

وأظهر أقوال أهل العلم في الجمع بين هذه الأحاديث يا عباد الله وجهان:

الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينوع في ذلك، فتارة يصوم شعبان إلا قليلًا، وتارة يصوم شعبان كله، فلربما صامه في سنة صامه كله، ولربما صامه في سنة أخرى صامر أكثره، أي صيامه إلا قليلًا.

والوجه الثاني -يا عباد الله-: أن المقصود بصيامه كله أنه يكثر من صيامه، وهذا سائغ في لغة العرب، يقول القائل: قمت الليل كله، وهو يريد أنه قام أكثره؛ لأنه ربما نام فيه أو أكل فيه أو شرب فيه.

وهذا الوجه الثاني أظهر -والله أعلم- وأقوى في النظر.

فالأظهر -والله أعلم- أن حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يكثر من الصيام في شعبان، حتى أن الناظر إليه يظن أنه قد صامه كله.

فإن صام المسلم شعبان كله -يا عباد الله- فلا حرج عليه لورود الأحاديث التي تدل على ذلك.

وإن صام أكثر شعبان وأفطر قليلًا منه فهذا أفضل وأظهر -والله أعلم-.

وأما حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، وفي رواية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان).

فالأصح من أقوال العلماء -يا عباد الله- أن هذا نهي عن ابتداء الصيام بعد النصف من شعبان من باب الاحتياط لرمضان، ثم يتأكد النهي إذا بقي يوم أو يومان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه)، أما من كان يصوم قبل النصف من شعبان؛ فإنه من السنة أن يكمل الصيام بعد النصف من شعبان.

وكذا يا -عباد الله- من كانت له عادة صيام من الشهر فلم يصمها إلا بعد أن جاء النصف الثاني من شعبان؛ فإن له أن يصوم تلك العادة.

وأضرب لكم مثالًا: فلو أن عبدًا من عباد الله كان من عادته أنه يصوم ثلاثة أيام من الشهر، فلما جاء شعبان لم يتيسر له أن يصوم هذه الأيام الثلاثة إلا في النصف الثاني من شعبان؛ فإنه يصومها ولا حرج في ذلك.

وكذلك -يا عباد الله- من أراد أن يصوم الاثنين والخميس من النصف الثاني من شعبان؛ فلا حرج في ذلك، ولو لم يكن صامها في النصف الأول في شعبان.

وكذا -يا عباد الله- من تيسر له الصيام في النصف الثاني من شعبان، حيث كان مشغولًا في النصف الأول من شعبان، فتيسر له أن يتنفل بالصيام في النصف الثاني من شعبان؛ فلا حرج عليه، بل هذا من الصيام المستحب؛ وإنما النهي كما ذكرنا -يا عباد الله- أن يبتدئ العبد الصيام بعد النصف من شعبان من أجل أن يحتاط لرمضان.

ما أحمل يا عبد الله؛ ما أجمل يا عبد الله أن تكرم نفسك بالإكثار من الصيام في شهر شعبان مقتديًا في ذلك برسولك وحبيبك -صلى الله عليه وسلم-، ومحييًا سنته -صلى الله عليه وسلم-، ومبينًا أنك تحب الصيام؛ لأن ربك يحب الصيام.

فها أنت مقبل على شهر يجب عليك أن تصوم فيه -وهو شهر رمضان-، تبادر إلى الإكثار من الصيام في شهر قبله لا يجب عليك أن تصوم فيه؛ وإنما هو قلب محب لله محب لما يحبه الله -سبحانه وتعالى-.

واعلموا -عباد الله- أن من القواعد الشرعية في النوافل: أن يفعل الإنسان منها ما يطيق، وأن لا يمل نفسه، فأنت -يا عبد الله- انظر إلى حالك، وانظر إلى ما تطيق أن تصومه من شعبان، فصم ولك في ذلك خير، فإن أطقت -يا عبد الله- أن تصوم أكثر شعبان، أن تصوم شعبان إلا قليلًا؛ فذاك خير لك، فأنت تتشبه بخير من يُتشبه به، تتشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وتحيي سنته.

ألا فاتقوا الله -عباد الله-، وأكرموا أنفسكم بطاعة الله، ومروا أنفسكم وأهليكم بطاعة الله -عز وجل-، فإن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وإنها والله- سرعان ما تنتهي، وإن العبد منا -يا عباد الله- ليمر عليه اليوم وهو لا يدري هل يدور عليه من الأسبوع، وإن العبد ليمر عليه الشهر وهو لا يدري هل سيمر عليه من السنة الأخرى، ولكنه على يقين أنه اليومَ في قدرة على أن يتقرب إلى الله بما يستطيع من العبادات، كما أنه على يقين من أن الموت قادم لا محالة، وأن الموت لا يدري أحد موعده؛ وإنما هو أجل عند الله -عز وجل-، ألا فلنتقي الله عباد الله، ولنسارع إلى جنة الله؛ لعلنا أن نكون من المفلحين.

عباد الله؛ إن من سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- العبادة وقت غفلة الناس، ومن ذلك: إكثاره من الصيام في شهر شعبان، قال أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا رسول الله؛ لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شهر شعبان. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر الله تُرفع الأعمال فيه إلى رب العالمين، فأحب أن تُرفع أعمالي وأنا صائم).

إن شهر شعبان -يا عباد الله- شهر يغفل الناس عنه؛ لأنه يقع بين شهر رجب -وهو شهر محرم تعظمه الناس-، وشهر رمضان -وهو شهر مبارك يصومه الناس وجوبًا-، فيغفل الناس فيه عن الصيام وعن الأعمال، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحييه بالصيام، فيصومه إلا قليلًا.

ولذا -يا عباد الله- كان مما يُعْظِمُ الأجرً لعبد الله: أن يتعبد الله في وقت غفلة الناس، أو في المكان الذي يُغفل فيه عن عبادة الله -سبحانه وتعالى-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، العبادة في الهرج -أي: في القتل واختلاف الناس بسبب الفتن- كالهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فالعبد -يا عباد الله- الذي يكثر من عبادة الله، يكثر من ذكر الله ومن طاعة الله في وقت غفلات الناس؛ ذلك يدل على قوة إيمانه وعلى إقباله على الله -عز وجل-، فينال ثوابًا أعظم وأجرًا أكرم، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل ثواب عمله كثواب الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وأنت -يا عبد الله- قد فاتتك الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لكن لم يفتك هذا العمل، فحيثما كنت في مكان وجدت الناس غافلين عن طاعة الله؛ فاعبد الله واذكر الله واقرأ القرآن، فإن لك في ذلك منزلة رفيعة، وحيثما كنت في مكان رأيت الناس فيه في غفلة؛ فلا تغفل معهم يا عبد الله، فإذا فعلت ذلك كنت من الفائزين.

ولذا -يا عبد الله- كان من أسرار أن قيام الليل أفضل نوافل الصلاة؛ من أسرار ذلك: أنه يكون في غفلة الناس، ولذا جاء الحديث: (صلوا والناس نيام).

فعلينا -يا عباد الله- إذا رأينا الناس في غفلة في زمان أو مكان أن نجتهد في إكرام أنفسنا بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، بذكر الله وبعبادة الله -عز وجل-، ولنا في ذلك مقام كريم وفضل عظيم.

فالله الله -عباد الله-؛ إن الله أكرمكم فأمد أعماركم ونوَّع لكم أعمالكم ورضي منكم بالقليل، فاجتهدوا في طاعة الله -يا عباد الله-؛ تنالوا ثواب الله.

ثم اعملوا -رحمني الله وإياكم- أن الله أمرنا بأمر عظيم جليل، بدأ فيه ثم بنفسه ثنى بملائكته، فقال -عز من قائل-: {إن الله وملائكته يصلون على النبي . يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا).

فأكرموا ألسنتكم -يا عباد الله- بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا سيما في هذا اليوم المبارك يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا، وارضِ اللهم عن الصحابة أجمعين، وارضِ اللهم عن الصحابة أجمعبن، وارضِ اللهم عن الصحابة أجمعين، وارضِ عنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين….

والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا وسلم.


شارك المحتوى: