فوائد تربوية وعلمية من سورة الفاتحة
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
فوائد تربوية وعلمية من سورة الفاتحة
الحمد لله الذي فضل كلام بعضه على بعض فجعل بعض كلامه أفضل من بعض .
والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي بيّن لنا القرآن وفسره صلى الله عليه وسلم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .
إن أفضل سور القرآن سورة الفاتحة كما أن أفضل آيات القرآن آية الكرسي
أخرج البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد”. ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: ” {الحمد لله رب العالمين} “.
وأخرج مسلم عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} . قال: فضرب في صدري، وقال: ” والله ليهنك العلم أبا المنذر “
وهذه السورة وهي سورة الفاتحة قد دل على فضائلها ورفيع درجتها أدلة شرعية كثيرة، أذكر دليلين .
الدليل الأول: أخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال :” قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل “
إخوة الإيمان إن هذا يكون لنا في كل صلاة نصليها، فلتكن قلوبنا خاشعة حاضرة .
فكلما قرأنا الفاتحة في صلاتنا وقال أحدنا في صلاته وهو العبد الضعيف: {الحمد لله رب العالمين} قال الله الذي لا إله إلا هو جبار السماوات والأرض: ” حمدني عبدي “
وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله الذي لا إله إلا هو :” أثنى علي عبدي ” …
فالله الله إخوة الإيمان أن نستشعر هذه المعاني العظيمة عند صلاتنا وقراءتنا لسورة الفاتحة .
وإن من عظيم فضل هذه السورة: أن الصلاة التي هي الصلاة، والتي هي عمود الإسلام لا تقبل إلا بقراءة سورة الفاتحة
ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب “
فلو لم تكن للفاتحة الدرجة العالية لما كانت ركنًا من أركان الصلاة .
وسورة الفاتحة سبع آيات بإجماع أهل العلم، كما حكى ذلك ابن جرير الطبري وغيره، والله سماها بـ (السبع المثاني ) أي هي السبع آيات .
وعلى أصح أقوال أهل العلم أن سورة الفاتحة تبتدئ بقراءة {الحمد لله رب العالمين} لا بقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) وتبتدئ الآية السابعة بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
أما قول (آمين ) فإنها ليست من الفاتحة؛ لذا مما يخطئ فيه بعض المعلمين أنه إذا علم الصبيان قراءة سورة الفاتحة علمهم قول (آمين)، حتى يظن الصبي أن (آمين ) من سورة الفاتحة، وهي ليست من سورة الفاتحة بإجماع أهل العلم، بل هي دعاء بمعنى (اللهم استجب).
وإن لقول ( آمين) لغتين عند أهل العلم ذكرهما النووي في كتابه (المجموع)
اللغة الأولى: أن نقول (آمين) أي بالمد مع تخفيف الميم. واللغة الثانية: أن نقول (أمين) أي بالقصر مع تخفيف الميم
وبعض الناس يقول ( آمّين) يشدد الميم، ومن فعل ذلك فقد أخطأ؛ لأن معنى (آمّين) أي قاصدين. والمراد: أن يقول (آمين) أي اللهم استجب .
وإننا إخوة الإيمان إذا تفكرنا في هذه السورة وما الذي جعلها أفضل سور القرآن هو ما اشتملت عليه من المعاني الجليلة والقواعد العظيمة التي ترجع إليها الشريعة كلها .
حتى قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: إن القرآن كله يرجع إلى سورة الفاتحة وإن الفاتحة كلها ترجع إلى قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} ا.هـ
لذا ألف الإمام ابن القيم – رحمه الله – كتابه (مدارج السالكين) وهو ثلاثة مجلدات كل هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين}
وإذا تأملت هذه السورة وجدت أول السورة مفتتحاً بأنواع التوحيد الثلاثة؛ بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
فيقول سبحانه {الحمد لله رب العالمين} {الحمد لله} راجع إلى توحيد الإلهية ، { رب العالمين} راجع إلى توحيد الربوبية، {الرحمن الرحيم} راجع إلى توحيد الأسماء والصفات، {مالك يوم الدين} راجع إلى توحيد الربوبية، {إياك نعبد } راجع إلى توحيد الإلهية، {وإياك نستعين} راجع إلى توحيد الربوبية .
وإذا تأملت أيضًا وجدت أول السورة افتتحت بأمور ثلاثة: بذكر الإلهية، والربوبية، والملك .
وهذه الأمور الثلاثة موجودة في آخر سورة في القرآن { قل أعوذ برب الناس} الربوبية { ملك الناس} هذا الملك { إله الناس } هذه الإلوهية .
فيا سبحان الله كيف توافقت أول سورة في القرآن مع آخر سورة في القرآن .
ثم إذا تأملت هذه السورة العظيمة وجدت أن شرطي قبول العبادة مذكور فيها:
الشرط الأول: الإخلاص لله .
الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذان الشرطان مذكوران في قوله تعالى { إياك نعبد }هذا هو شرط الإخلاص وقوله {اهدنا الصراط المستقيم } هذا هو شرط المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأيضاً إذا تأملت هذه السورة وجدت أن محركات القلوب الثلاثة؛ وهي محبة الله ورجاؤه وخوفه كلها موجودة في هذه السورة؛ ففي أول السورة { الحمد لله } وهذا في إشارة إلى محبة الله، { الرحمن الرحيم } فيه إشارة إلى رجاء الله، { مالك يوم الدين } فيه إشارة إلى الخوف من الله سبحانه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن محركات القلوب ثلاثة : حب الله هو الذي يجعل العبد يقبل على الله، ويسير إليه، ينشد رضاه، ثم الخوف يجعل العبد لا يخرج عن الطريق ثم رجاء الله فإن الرجاء هو القائد ا.هـ.
وهذه المحركات للقلوب موجودة في أوائل سورة الفاتحة .
ثم إذا تأملت هذه السورة وجدت فيها قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} أي لا نعبد إلا أنت . فهذا هو توحيد الإلهية هذا الذي من أجله رفعت السماوات السبع، وبسطت الأرضون السبع، وحقت الحاقة، وقرعت القارعة، وزلزلت الزلزلة، ونصب الصراط، وتطايرت الصحف، فمن الناس من يأخذ كتابه باليمين – أسأل الله أن يجعلنا منهم- ، ومن الناس من يأخذ كتابه بالشمال . كل هذا لأجل {إياك نعبد } أي لا نعبد إلا الله، ولا نستغيث إلا بالله، ولا نلتجئ إلا إلى الله، ولا نفزع إلا إلى الله، ولا ندعو إلا هو، ولا نذبح إلا له، ولا نطلب المدد إلا من الله الذي لا إله إلا هو .
ومع وضوح القرآن في تأكيد هذا وبيانه إلا أن كثيرًا من المسلمين قد خالفوا ذلك بالوقوع في الشرك -عافاني الله وإياكم -.
ثم قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين : إن الناس مع {إياك نعبد وإياك نستعين} أصناف أربعة:
الصنف الأول: وهذا أفضل الناس هو من يجمع بين العبادة والاستعانة بالله إذا أراد أن يصلي يستعين بالله يجعل صلاته لله ويجتهد على هذه الصلاة ويكون في ذلك مستعينا بالله
الصنف الثاني: الذي ليست عنده عبادة ولا استعانة بالله .
الصنف الثالث: وهو الصنف المقصر هو من عنده عبادة لكنه لا يستعين بالله في صلاته؛ تراه يصلي الفجر لكن لا يستعين بالله في هذه الصلاة،
الصنف الرابع: عنده استعانة بالله لكن على المحرمات ا.هـ.
ثم في آخر هذه السورة قال الله سبحانه {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم }، والذين أنعم الله عليهم ذكرهم الله بقوله {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
أسأل الله برحمته أن يجعلني وإياكم من الصديقين إنه هو الرحمن الرحيم .
والصراط واحد لأن الحق واحد لا يتعدد، فالحق واحد لا اثنان
ومن الحق أن نعادي ونوالي عليه فكل الذين يخالفون أهل السنة في التوحيد، ولا يوافقنهم على التوحيد كما ترون من طائفة الأشاعرة، أو طائفة الإخوان المسلمين، أو طائفة جماعة التبليغ الذين يسمون بالأحباب فإنهم يبغضون ويعادون لأنهم ليسوا على اعتقاد أهل السنة .
لكن من الخلاف ما يسوغ الخلاف فيه كالمسائل التي اختلف فيها سلف هذه الأمة ككثير من مسائل الفقه . ففي هذه المسائل الفقهية لا يعادي بعضنا بعضا فقد تختار في مسألة بما ظهر لك من دليل أو تقليد من تثق به من المذهب الشافعي أو المذهب المالكي أو المذهب الحنفي أو المذهب الحنبلي .
ويختار غيرك خلاف ذلك ونبقى أحبة فنحن ما بين أجر أو أجرين ، أما مسائل الاعتقاد فمن خالف اعتقاد أهل السنة فإنا نبغضه ولا نحبه، لأن الحب والبغض في الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند أحمد وأبي داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة – يعني: الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة”
وهذه الفرق كلها مسلمة لكنها على ضلالة مستحقة للنار إلا فرقة واحدة وهي التي كانت على ما عليه النبي وصحابته والتابعون لهم بإحسان في أمور الدين ومن أهم ذلك الاعتقاد
لذا قال صلى في الصحيحين في حديث المغيرة بن شعبة وحديث معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون”
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من هذه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إنه هو الرحمن الرحيم .
ثم بعد ذلك ذكر فرقتين ضلتا وسبب ضلالهم سبب رئيس في ضلال كل من ضل
الفرقة الأولى قول { غير المغضوب عليهم } المراد بهم اليهود ، قال ابن أبي حاتم في تفسيره أجمع العلماء أن معنى غير المغضوب عليهم اليهود ، وأن معنى الضالين النصارى.
وسبب ضلال اليهود أنهم كانوا أصحاب علم ولم يعملوا بعلمهم، أما النصارى فسبب ضلالهم أنهم تعبدوا الله بجهل، فإذن سبب ضلال بني آدم إما الجهل أو ترك العلم بقصد؛ لذا قال تعالى في سورة الأحزاب في ذكر حال بني آدم {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
الظلوم الذي لم يعمل بما تعلم من العلم، والجهول الذي تعبد الله بغير علم؛ لذا قال سفيان بن عيينة وغيره من السلف: من ضل من علمائنا ففيه شبه باليهود ومن ضل من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
فأوصيكم إخوة الإيمان أن تتقوا الله الذي إليه المصير، وألا تتعبدوا بجهل وبالعادات والأعراف وبالاستحسانات وبالأذواق، وبما تشتهيه الأنفس بل تعبدوا الله بدليل .
وأوصيكم إخوة الإيمان أن تعملوا بما تعلمتم من العلم، فإن العلم وسيلة لأن يعبد الله بما يريده الله الذي لا إله إلا هو.
لذا قال سبحانه {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وشرع لنا في صلاتنا سواء كان إماما أو مأموما جهرية أو سرية أن نقول آمين أي نؤمن على هذا الدعاء العظيم .
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يفقهنا في دينه وأن يحيينا جميعا على التوحيد والسنة وأن يمن علينا جميعا بالعلم النافع والعمل الصالح
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فإنه مع كون سورة الفاتحة أفضل سور القرآن إلا أنك ترى بعض المسلمين يخطئ في قراءة أمور مغيرة لمعنى هذه السورة:
ترى بعض الناس وهو يقرأ سورة الفاتحة يقول (إياك) بلا تشديد ومعنى (إياك) بلا تشديد أي الشمس، فكأنه يقول الشمس أعبد والشمس أستعين ، وإنما المشروع أن تقول ( إيّاك) بتشدد الياء كما ترى هذا في المصحف إذا قرأته تلاوة .
وترى بعض الناس يكسر الباء في (نعبُد) والصحيح أنها مضمومة .
فالله الله أن تعلم هذه السورة فإن حفظها فرض عين؛ لأن الصلاة لا تقبل إلا بها، فلابد من تعلمها وأن لا نقع في أخطاء في تلاوتها، والعلم إنما يكون بالتعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن أبي سفيان :” من يرد الله به خيرا يفقهه “أخرجه البخاري ومسلم
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة “
ثم إخوة الإيمان الله الله أن نقرأ تفسير هذه السورة وغيرها من سور القرآن وأن نعرف معناها فإن من الحكم العظيمة التي من أجلها أنزل القرآن أن نتدبره، ولا يمكن أن نتدبر القرآن إلا بفهمه قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}
فالله الله أن نتدبره و أن نرجع إلى التفاسير الموثوقة التي على اعتقاد سلف هذه الأمة لا على اعتقاد المعتزلة، ولا على اعتقاد الأشاعرة، ولا اعتقاد القبوريين ولا غيرهم
ومن أنفع التفاسير وأخصرها تفسير الإمام عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله –
اللهم يا من لا إله إلا أنت الله يا رحمن يا رحيم اللهم يا من إليك المصير والمعاد اللهم يا كريم اللهم يا حي يا قيوم اللهم يا حي يا قيوم، اللهم يا حي يا قيوم ، اللهم أصلحنا وأدخلنا في عبادك الصالحين الله أصلحنا وأدخلنا في عبادك الصالحين اللهم أصلحنا وأدخلنا في عبادك الصالحين .
اللهم أحيينا على التوحيد والسنة وأمتنا على التوحيد والسنة، اللهم اجعلنا نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم علم المسلمين دينهم اللهم فقه المسلمين في دينهم اللهم منّ على المسلمين أن يقوموا بتوحيدك واتباع نبيك صلى الله عليه وسلم
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله
د. عبد العزيز بن ريس الريس