تجديد حسن الترابي ؟!
طرح حسن الترابي مبدأ ” إعادة بناء أصول الإسلام أي الإسلام الذي تحتاجه الدنيا اليوم” ، بدلا من جمود واجترار وتحجير النصوصيين الآبائيين القروسطيين- نسبة إلى القرون الوسطى-، كما ينعت بذلك المتبعين لآثار السلف الصالح، والسائرين على منهجهم العدل الخيار.
وأنه يجب على المسلم المعاصر أن ينظر في أيّ عصر يعيش، وهذا الذي دعا البعض -بزعمه- لأن يصف المسلمين اليوم بأصحاب التّصوّر المتقدّم نحو الأسوأ.
والذي حدا بكثير من الباحثين من أشياعه إلى أن يدعوا إلى مدرسة تجديدية إصلاحيّة، تتمرد على القوانين الأصولية التي استنبطها من الوحيين الإمام الشافعي رحمه الله وجمهرة الأصوليين من بعده، بل تتصادم معها، وتسير في عكس اتجاهها.
لتعيد صياغة الذات الإسلامية لتكون حرّة منسجمة مع عالمها بعيدة عن ما يرونه جمودا وتخلفا وانغلاقا، لتتفاعل وتؤثر بطاقاتها وتفاعلاتها الإيجابية في التطوّرات والتغيرات والأحداث والماجريات المتعاقبة.
ونشأ عن هذا ، الدّعوة إلى تشريع يرفع شعار الإسلام، لكنه في حقيقته وجوهره مدني علماني، يضع القوانين للناس على أساس من مصالحهم وحرياتهم، متجاوزا النظر إلى ما يضبط هذا الاجتهاد الحادث من أصول مؤثّرة لا يمكن تجاوزها، كالسنّة والإجماع والقياس.
ونتج عن هذا أن عدّت المصلحة ( المنفعة ) بمفردها دليلا قائما برأسه، يقيّد المطلق وينسخ الأحكام أو يخصصها أو يوقف العمل بها أو يتحايل في حقيقة الأمر على ظواهرها.
فنتج عند كثيرين من مفكري وشداة هذا التيار قيام ثورة منفلتة على كل ما أصله وأجمع عليه علماء الإسلام من تراتيب وقوانين منهجية ضابطة في سبيل فهم الخطاب الشرعي.
فتم نسف كثير من العقائد والشرائع والدمدمة على المسلمات، فردوا كل معنى ظني في القرآن، بل زعموا أن الأدلة النقلية لا تفيد اليقين إلا بشروط يستحيل توافرها، وكذبوا السنة بدعوى عزة التواتر فيها، ونقضوا الإجماع الضروري بحجة أنه غير ملزم للأمة، فأبقوا صورة مشوهة ممسوخة للدين، يمكنهم طرقها وطيها وتغيير معالمها.
وبينما كانت شروط الاجتهاد تعجيزيّة في وقت مضى، عدا ما عرف عن الحنابلة ولو نظريّا على الأقلّ، أضحت في زماننا دعوى الاجتهاد، مشرعة الأبواب، مفتحة الستور، مسبلة الذرائع لا يحول دونها حائل، لتصل إلى المساس بكل ما هو مقدّس من النصوص القطعيّة الورود والدلالة.
وكان الباعث لكل هذا التجريف -بحسبهم- هو هذا الواقع المأسوف عليه، والاحتراب الجاثم على صدر الأمّة والذي تسبب في ضعفها وهوانها وتشرذمها، والفجيعة التي يعيشها المسلم المعاصر، والمفارقة فيما بينه وبين العالم، والذي جعل الإسلام في مواجهة صارخة مع العالم.
فكل هذه الأمور والخيوط المتناثرة والتي لا يمكن لأحدنا أن ينظر في هذه القضايا بدون جمعها والتأليف بين متفرقاتها، تشكّل مجتمعة محورا تدور في فلكه هذه النزعة التجديديّة المتطرفة التي تحاول شرعنة الواقع، وتحريف الإسلام، وعلمنته وتغريبه، ودفعه برمّته لمواكبة الركب، والسير مع هذا الجوّ المتدفّق بالحوادث والمندلق بالمتغيّرات .
فلم يعد عند أصحاب هذه النزعة ( الجنونيّة ) في التجديد احتراما وتعويلا على الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم وتبع الأتباع في فهم النص الشرعي وتلقي خطابه، ولا التفات لعلماء الإسلام المعتبرين في وفاقهم وخلافهم، بل ولا تعظيم لنصوص ومحكمات الشريعة نفسها أو أي تقديس لها.
بل ذهبت بعض النزعات التجديدية إلى منحنى أبعد من ذلك، حين اعتبرت تفسير الرسول صلى الله عليه وسلّم للدين وبيانه له من العراقيل والعقبات والكوابح الصّادة عن الفهم المقاصدي المصلحي المفتوح للنص،ّ والمتلائم مع احتياجات ومتطلبات وظروف الإنسان المعاصر !
فحين ننطلق في فهمنا للنصّ بعيدا عن القيود الشرعيّة، وفهم السلف الصالح رحمهم الله، بدعوى تخطّي الموروث والفقه السائد والخروج من وهدة التخلف، وابتغاء تضييق هوّة هذا الشقاق الراهن بين المسلم والعالم، وبدعوى انطلاقنا من آرائنا واحتياجاتنا ومن إيحاءات زماننا، عندها يصبح الفهم الصحيح للدين في اتّجاه ونحن نولي وجوهنا باتجاه آخر !
وهذه المقالات هي نتيجة طبيعيّة مؤكّدة لفساد الأصل الذي ساروا عليه، والذي بنوه على مقولة ذائعة بينهم تنصّ على أن قراءة التنزيل يجب ان تكون باعتماد أصول جديدة للفقه الإسلامي، فصارت هذه التقريرات أصولا تتخذ لهدم الدين، ومعاول في أيدي المشككين فيه.
فهذه من ثمرات وآثار النزعة المحدثة التجديديّة المتلاعبة بالنص، والتي دخلت في هذا المنزلق الخطر، وأدّت إلى الانحراف والانغماس في الأهواء التي تتجارى بأصحابها بعيدا عن النور والهدى الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكأن فهم السلف الصالح للدين هو الذي أعاق تقدّمنا، وكرّس تخلّفنا، وفوّت علينا مصالحنا !!
ولا يُنكر أهمية النظر المقاصدي والتجديد واعتبار فقه المصالح والمفاسد، لكن على أن لا يكون ذلك بعيدا ولا متعاليا على معايير الأصوليين المنهجيّة والضوابط الشرعيّة الصارمة، وإلا فتحنا بابا واسعا للأذواق والأهواء والشهوات والنزوات.
وكان من الواجب على هؤلاء المحدَثين تعصيب الجناية وتعليق التّبعة على المسلمين أنفسهم، وأنّهم السبب في وقوع هذا الداء المتفشي، والبلاء المستعصي الذي ينخر في أديم وجسد الأمة، بتخاذلهم عن الفهم الصحيح للدين، وعدم نصرتهم لدين الله والقيام بمتطلبات تمكينه، بدلا من أن يقلبوا له ظهر المجنّ، ويُلقوا بكلكل جارف من التّهم على الإسلام ومدارسه الفقهيّة والأصوليّة التقليدية المعتمدة، بدعوتهم إلى تحوير النصوص والتعسّف والتكلّف في فهمها وليّ أعناقها، بدعوى التجديد وأنسنة الخطاب الديني، مما يؤول إلى أن يكون فهم الإسلام وتنزيل أحكامه، تبعا لأمزجة الآرائيين وأذواقهم واستحساناتهم التي لن يحدّها حدّ، ولن تقف بهم دون غاية.
كتبه: محمد بن علي الجوني