قد سأل السائل سؤالًا طويلًا، نقل فيه كلامًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم).
وخلاصة هذا النقل: هو نقل فيه تفريق بين الوسائل المحدثة والوسائل التي يصح اعتبارها؛ وذلك أنَّ مَن أراد أن يتخذ وسيلة لم يتخذها النبي ﷺ ولا أصحابه فلها أحوال ثلاثة:
الحال الأولى: أن يوجد المقتضِي لفعل هذه الوسيلة في عهد النبي ﷺ ولا يوجد مانع يمنعه من فعلها، ومع ذلك لم يفعلها، فعدم فعله ﷺ لهذه الوسيلة يدل على أنه لا يشرع لنا فعلها؛ لأنها لو كانت خيرًا لفعلوها.
الحال الثانية: أن يوجد المقتضي في عهد النبي ﷺ لفعل هذه الوسيلة، لكن هناك مانع يمنع من فعلها، كعدم اختراعها في زمانهم، فمثل هذه يصح فعلها، وذلك كاستعمال مكبرات الصوت في الأذان وأمثالها.
الحالة الثالثة: ألا يوجد المقتضي في عهد النبي ﷺ، فإذا وجد المقتضي بعد عهد النبي ﷺ فإنه يفعل، ومن أمثلة ذلك: أنَّ عمر -رضي الله عنه- أشار على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بجمع القرآن لمَّا قُتِل القُرَّاء السبعون، وذلك خشية ذهاب القرآن كما أخرجه البخاري.
فالمقتضي من هذا الفعل لم يكن في عهد النبي ﷺ لأنه ﷺ كان بينهم ولا يُخشَى من ذهاب القرآن.
ففي الحال الثانية والثالثة يجوز فعل الوسيلة، بخلاف الحالة الأولى فلا يجوز فعلها لأنها من جملة البدع.
وسأل السائل: ” هل الآهات من جنس ذلك؟ “.
فيقال: إن استعمال الآهات أو ما يسمى بالأناشيد الإسلامية، أو ما يسمى بالتمثيل الإسلامي، أو توزيع الجوائز؛ لأجل أن يجتمع الناس على الدروس والمحاضرات … كل هذه الوسائل كان مقتضاها في عهد النبي ﷺ وصحابته، ولا مانع يمنعهم من ذلك ولم يفعلوه، فدَلَّ ذلك على أنَّ هذا الفعل محدَث، ولا يجوز فعله وسيلةً للدعوة وترغيبًا للناس في الخير، أو للتأثير عليهم في أن يقبلوا على طاعة الله -عز وجل-.
فإن قيل: قد حصل الحُدَاء في عهد الصحابة؟
فيقال: إنهم فعلوا الحداء على وجه الإباحة والتسلية لا على وجه الدعوة وترغيب الناس للخير، وفرق بينهما، ومثل ذلك وضع الجوائز على المحاضرات والدروس، فقد ثبت عن عمر -رضي الله عنه- النهي عن ذلك، وجاء عنه تجويزه كما روى ابن زنجويه في كتابه (الأموال)، لكن تجويزه لا يصح عنه، إنما الذي صح: «أنه نهى عن وضع المال لأجل حفظ القرآن»، وهذا مذهب الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-، فإنه ينكر وضع الجوائز لشحذ الهمم على فعل الطاعات.
والكلام على هذه القاعدة نفيس هو فيصل في التفريق بين وسائل الدعوة، هل هي توقيفية أو غير توقيفية، فلا يقال إنها توقيفية على الإطلاق، ولا يقال إنها غير توقيفية على الإطلاق، بل يُفصَّل فيها بالتفصيلات المتقدم ذكرها.
فاتخاذ الأشرطة التي تسمى بالكاسيت أو مكبرات الصوت في الدعوة إلى الله جائز، بل مستحب؛ لأنَّ هناك مانعًا كان يمنعُ النبي ﷺ أن يتخذ ذلك وهو عدم اختراعها في زمانه، بخلاف ما تقدم ذكره من الأناشيد والتمثيل وغير ذلك.
فالمقصود أنَّ ضبط هذه القاعدة مهم للغاية، وقد كان العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يردد هذه القاعدة، ويبيِّن أنها فيصل في التفريق بين الوسائل المحدثة والوسائل التي يصح أن تتخذ من المصالح المرسلة، وذكر أنَّ ابن تيمية أراد ذلك.
ثم مما أشار إليه السائل من كلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) أنَّ ذنوب العباد ليست مبرِّرًا لفعل هذه الوسائل التي وُجد المقتضِي لفعلها في عهد النبي ﷺ وانتفى المانع، بل يُؤمَر العباد بأن يرجعوا إلى الله. فلو قال قائل: إنَّ العباد بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله لا يتأثرون بالقرآن ولا يحرصون على مجالس العلم، فنضع لهم الجوائز على ذلك ترغيبًا على فعل الطاعة.
فيقال: إن ذنوب العباد ليست مُبررًا للإحداث، بل يؤمر العباد أن يرجعوا إلى دين الله، لا أنْ يُغيَّر دين الله لأجلهم، هذا خلاصة معنى هذه القاعدة.