بسم الله الرحمن الرحيم
من النقاط المهمة التي بُنِيَت عليها نظرية التطور: جعل تركيب المخلوقات بصورة عامة -بما فيها الإنسان- كلما تقدَّم الزمان صار أكثر تعقيدًا وتطوّرًا، فجعلوا بداءة وجودها عبارة عن خلايا بسيطة، تطوَّرت فيما بعد، وهكذا الإنسان، كان قردًا، ثم مخلوق (العصر الحجري) المتخلف، ثم تطور إلى شكله (المُتمدِّن) الحالي …
هذا التفسير لبداءة الخلق من أقوى دعائم نظرية التطور؛ لأنه يدعم صُدَفيَّة بداءة الخلق، فكلما كان الشيء أقل تعقيدًا كان احتمال الصدفة فيه أكبر.
للأسف كعادة الكفار من الحداثيين العرب يجعلون هذه النظريات والتفسيرات مسائل علميّة بل تكاد تكون قطعية! والبعض الآخر من المنهزمين المنتسبين للإسلام انطلق يهرول لبحث نصوص قرآنية ونبويَّة للتلفيق بينها وبين هذه التفسيرات لدعم مصداقيتها بالوحي -قبَّحهم الله-.
وكان الواجب على المسلمين في إعلامهم ومؤسساتهم التعليمية أن يتفطّنوا لهذا العبث في عقول أبنائهم، فقد نجحوا في جعل هذه التفسيرات المنحرفة أفكارًا نمطيَّة في عقول كثير من الناس.
وهناك أمثلة كثيرة من الوحي تهدم هذا الأصل، منها:
المثال الأول: أنَّ الكلام واللغة عند البشر قد وُجدت مع وجود آدم -عليه السلام- كما قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31].
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: ” علمه القصعة من القصيعة، والفسوة من الفسية “[1].
فإذن اللغة المُتحدَّث بها بين البشر موجودة بوجود آدم -عليه السلام-، وهذا ينسف الصورة النمطية التي يُروِّج لها الإعلام الغربي بأنَّ الإنسان الأول لا يكاد يتكلم وحاله أشبه بالحيوانات.
المثال الثاني: قول الله تعالى عن نوح: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ﴾ [هود: 38].
قال ابن جرير الطبري: ” هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحولت نجارا بعد النبوة، وتعمل السفينة في البر؟ “[2].
مع أنَّ نوح -عليه السلام- كان بعد آدم -عليه السلام- بعشرة قرون، كما روى الحاكم وابن حبان عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله أنبيٌّ كان آدم؟ قال: «نعم مُكلَّمٌ» قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» [3].
مع التنبيه على اختلاف اصطلاح المتأخرين للقرن عن معناه عند الأولين، فلا يشترط عند الأولين أن يكون مائة سنة، بل يُعبَّر عن القرن بالجيل، وهو ذهاب أكثر أهله، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [4].
المثال الثالث: ما ذكره الله تعالى عن سليمان -عليه السلام- حيث آتاه ملكًا لم يُؤته أحدًا من بعده، وما حصل من نقل عرش بلقيس في غمضة عين، ومعرفته لغة الطير وسماعه كلام النمل …إلى غير ذلك من الأمور التي لم يستطع العلم الحديث وعصر النهضة والحداثة أن يطولها!
المثال الرابع: ثمود قوم صالح -عليه السلام- قال الله عنهم: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ [الفجر: 9] قال ابن عباس -رضي الله عنه-: يعني: “ثمود قوم صالح، كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا” [5].
وهذه آثارهم باقية إلى يومنا تُبيِّن أنَّ الله أعطاهم براعةً ودِقَّةً في النحت والبناء، جعلت هذه الصروح تبقى هذه السنين الطويلة، وقد جعلها الله عبرة لمن بعدهم فقال: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38].
المثال الخامس: مثالٌ تاريخيٌّ، وهو الأهرامات وآثار الفراعنة، فإلى الآن بعض الأصباغ لم يتغيَّر لونها، بل وطريقة بناء الأهرامات وصمودها هذه السنين الطويلة محل لغز عند كثير من العلماء والباحثين إلى يومنا هذا.
وممن شهد حقبةً من عصور الفراعنة نبي الله يوسف -عليه السلام-، وفي قصته في القرآن ما يدلّ على وجود التطور والتمدُّن، كإنشاء السجون، ومخازن الحبوب …إلى غير ذلك من صور التمدُّن عند الأولين قبل آلاف السنين.
….
محمد عبدالحفيظ
________________________________
[1] تفسير الطبري (1 / 484).
[2] تفسير الطبري (15 / 310).
[3] ابن حبان (6190)، وصححه الحاكم في المستدرك (3654)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2668).
[4] مجموع الفتاوى (10 / 358) قال -رحمه الله تعالى-: “فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى أنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل وجمهور التابعين بإحسان. انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية “.
[5] تفسير الطبري (24 / 408).