استهلال السنة الهجرية


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ اللَّيلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكُورًا، والصلاةُ والسلامُ على رسولِنَا محمدٍ الآمِرِ بالبِدَارِ بالأعمالِ قبلَ الفَوْتِ والمَوْتِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

أمَّا بعدُ:

فإنَّا قَدْ بدَأَنا سَنَةً هجريَّةً جديدةً مِن التَّاريخِ الهجريِّ، وهو تاريخٌ قَمَرِيٌّ اشتَهَرَ بِهِ المسلمونَ وتوارَثُوا التَّأْريخَ بِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ بالهجريِّ نِسبَةً لهجرَةِ النبيِّ ﷺ إلى المدينةِ.

وأَوَّلُهُ شهرُ اللهِ المُحَرَّمُ، كَمَا أرَّخَهُ الخليفةُ الرَّاشِدُ عمرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- فاحْرِصُوا على معرِفَتِهِ والتَّعامُلِ بهِ، وَلَا يَغْلِبَنَّهُ التاريخُ الميلادِيُّ فيُنسَى التاريخُ الهجريُّ مَعَ مُضِيِّ الأيَّامِ وذهابِ الأزمانِ.

واحرِصوا على معرفةِ الأشهرِ الهجريةِ وحفظِها، وأنْ تُحفِّظوها أبناءكُمْ، وأنْ تُشيعوها في المُجْتَمَعِ لئلَّا تُنسَى.

واعْلَمُوا أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ مُعَلَّقَةٌ بالشَّهرِ الهِجرِيِّ وَلَا تُحْسَبُ إلَّا بهِ، كَمُضِيِّ الحَوْلِ عَلَى ما يُزَكَّى، أو صِيامِ شَهْرَينِ مُتَتَابعَيْنِ لِمَنْ عليهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ أو غيرِهِ، أو تَرَبُّصِ مُعْتَدَّةِ الوفاةِ أربعةَ أشهُرٍ وعشرًا، وهكذا …

أيُّها المسلمونَ، إنَّ التاريخَ الهِجْرِيَّ مِن خصائصِ المسلمينَ، فاعْتَزُّوا بِهِ وتَعَامَلُوا بِهِ، وتَعَاهَدُوا التَّأْريخَ بِهِ لئِلَّا يُنسَى ويُتْرَكَ، كَمَا أنَّ التاريخَ الميلادِيَّ في أصلِهِ مِن خصائصِ غيرِكُم، فيجوزُ عندَ الحاجةِ التَّعاملُ بِهِ، لكن مَعَ عدمِ إغفالِ وتركِ التاريخِ الهجرِيِّ.

أَيُّها المسلمونَ: إِنَّنَا في ابتداءِ الشَّهرِ الأوَّلِ مِن السنةِ الهجريَّةِ -وَهُوَ مُحَرَّمٌ- وهذا الشَّهْرُ شَهْرٌ عظيمٌ وهو أَحَدُ الأشْهُرِ الحُرُمِ الَّتي قالَ اللهُ فيها: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].

وهذا الشَّهْرُ يُستَحَبُّ الإكثارُ مِنْ صِيَامِهِ، كَمَا رَوَى مسلمٌ عَن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ سُئِلَ أيُّ الصِّيامِ أفضَلُ بعدَ الفريضةِ؟ قالَ: «صِيامُ شهرِ اللهِ المُحَرَّمُ».

وفيهِ يومُ عاشوراءَ الذي صِيامُهُ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، رَوَى الإمامُ مسلمٌ عَن أبي قتادَةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ سُئِلَ عَن صِيامِ يومِ عاشوراءَ، فقالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ».

اللهُمَّ سَدِّدْنَا وَعَلى طاعَتِكَ أَعِنَّا،

أقولُ مَا تَسْمَعونَ، وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم فاستغفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وَعَلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:

فإنَّ الشَّريعَةَ قَدْ ذَمَّتْ البِدَعَ ذَمًّا شديدًا، وَحَذَّرَتْ مِنْهَا تحذيرًا بَليغًا، قالَ تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].

وفي الصَّحيحينِ عَن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أحدَثَ في أمْرِنَا هذا ما ليسَ مِنهُ، فَهُوَ رَدٌّ».

وَرَوَى مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

وَرَوَى البيهَقِيُّ في كتابِ (المَدْخَلِ) عن ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قالَ: “كُلُّ بِدعَةٍ ضَلَالَةٌ وإنْ رآها النَّاسُ حَسَنَةً “.

أَيُّهَا المسلمونَ: إنَّ مِن البِدَعِ المُحْدَثَةِ المُحَرَّمَةِ والتي اسْتَحْسَنَها الجُهَّالُ وكثيرٌ مِن العَوَامِّ الدعوةَ إلى خَتْمِ السَّنَةِ الهِجْرِيَّةِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ مِنْ صَدَقَةٍ أو صِيامٍ أو اسْتِغْفَارٍ، بِحُجَّةِ خَتْمِ صَحِيفَةِ العامِ بِعَمَلٍ صالِحٍ، وهذِهِ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ يَحْرُمُ فِعْلُهَا لِأَسْبابٍ وَأَوْجُهٍ، مِنها:

الوجهُ الأوَّلُ: لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ الكِرَامُ وَلَا السَّلَفُ الأَخْيارُ، وَلَو كانَ خيرًا لَكَانوا أَسْبَقَ إليهِ.

الوجهُ الثَّاني: أنَّ صَحيفَةَ العامِ لَا تُخْتَمُ بِنِهايَةِ السَّنَةِ الهِجْرِيَّةِ، بَلْ تُخْتَمُ في ليلَةِ القَدْرِ، كَمَا ذَكَرَ ذلكَ جَمْعٌ مِن المُحَقِّقِينَ، كابنِ القَيِّمِ وغيرِهِ، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأوجُهِ والأسبابِ …

وَمِن البدعِ الاحتفالُ ببدءِ السنةِ الهجريةِ، فلم يفعل ذلكَ الصحابةُ ولا التابعونَ، ولو كان خيرًا لسبقونا إليهِ.

فاتَّقوا اللهَ يا أهلَ الإيمانِ واحْذَرُوا البِدَعَ فإنَّهَا مُهْلِكَةٌ وَللهِ مُغْضِبَةٌ.

أيُّها المسلمونَ، خُذُوا العِبرةَ مِن مُضيِّ الأزمانِ، وتصَرُّمِ الأعمارِ، وتَعَاقُبِ الأعوامِ عامٌ بعدَهُ عامٌ، وكُلَّمَا مَضَى عامٌ أدنانَا لأجَلِنا وليومِ وَدَاعِنا، ولِساعةِ قيامَتِنَا، فأعِدُّوا العُدَّةَ وتأهَّبُوا للموتِ وبَغْتَتَهُ، وللقبرِ وظُلْمتَهُ، وللبَعْثِ وفَزْعَتَهُ، ولدنوِّ الشمسِ وحرارَتِهَا، وللصُّحُفِ وتطايُرِهَا، وللميزانِ لِخِفَّتِهِ أو ثِقَلِهِ، وللحوضِ وشَرْبَتِهِ، وللصِّرَاطِ ودِقَّتِهِ وهَلْعَتِهِ.

قال تعالى: ﴿‌تُقَدِّمُوا ‌لِأَنْفُسِكُمْ ‌مِنْ ‌خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل: 20] وقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ‌وَمَا ‌تُقَدِّمُوا ‌لِأَنْفُسِكُمْ ‌مِنْ ‌خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 110].

اللهُمَّ اهْدِنَا فيمَنْ هَدَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فيمَنْ تَوَلَّيتَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأهلِكِ الكافرينَ يا رَبَّ العالمينَ.

اللهُمَّ وَفِّق خادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ المَلِكَ سلمانَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ عهدِهِ وَجميعَ أعْوَانِهِ لِمَا فيهِ هُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَهُمْ في رِضَاكَ، وانْصُرْ بِهِمْ دِينَكَ، وأَعْلِ بِهِمْ كَلِمَتَكَ، وَجَميعَ وُلَاةِ أمُورِ المسلمينَ.

اللهُمَّ اجْعَلْ أَعْمَالَنَا في رِضَاكَ، وأَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ في كُلِّ مكانٍ، واخْذُلْ أعداءَ الدِّينِ في كُلِّ مكانٍ، واجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وجميعَ بِلادِ المسلمينَ، وآتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عذابَ النَّارِ.

 

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0