الاستغفار وحرمة المساجد


الخطبة الأولى:

الحمد لله الواحد القهار , العزيز الغفار , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره الكافرون , ربٌّ رحيم , جوادٌ كريم , أثنى على التائبين وأشاد بالمستغفرين فقال وهو أصدق القائلين: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ أحمده على نعمه الغِزار , وأشكره على فضله المدرار. وأشهد أن نبينا محمَّداً عبد الله ورسوله المختار, أرشد أمته ودلَّهم على خير ما يعلمه لهم ومن ذلك الاستغفار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أمَّا بعدُ : اتقوا الله حق تقواه ، فإنها سبب لانفتاح بركات السماء والأرض ، يقول الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا

يَحْتَسِبُ ) .

عباد الله : من منا لا يذنب ، ومن منا لا يخطي ، مَنْ مِن بني آدم لا يقع في معصية الله؟! ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ» لكن البلاء العظيم الاستمرار عليها ، واستمراؤها ورسولنا  يقول  «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»

كم نحن في حاجة إذًا إلى التوبة، والاستغفار ليس شيئًا باللسان يقال: فقط ، بل لا بد من استحضار  القلب معه ،، ومن قال بلسانه: استغفر الله، وهو غير مقلع بقلبه فهو داع بلسان، لكن القلب غير حاضر، ولذلك فإن استغفاره يحتاج إلى استغفار،

يقول ابن القيم -رحمه الله : والله تعالى إنما يغفر للعبد

إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة، وقوة الطبيعة، فيواقع الذنب مع كراهيته له، من غير إصرار في نفسه، فهذا تُرجى له مغفرة الله ”

لقد صوّر عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- المؤمن مع ذنبه تصويرًا دقيقًا، فقال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ -العاصي والفاسق- يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَ” (رواه البخاري)،

عباد الله : إن من أعظم الطاعات وأنفع القربات الاستغفار، ختام الأعمال الصالحة مع كونها صالحة، فتختم الصلوات بالاستغفار، وقيام الليل بالاستغفار، وكذلك في الحج: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [سورة البقرة:199].

وختام المجالس الاستغفار، الاستغفار بالأسحار بعد قيام

الليل في الطاعات أيضًا، وليس في المعاصي فقط؛ لأن العبد لا يخلو من التقصير، وأما إذا ظلم نفسه، فإنه يستغفر ربه: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ )

كم من الناس  من يأتي يوم القيامة في غاية السرور والحبور لماذا؟ قال ﷺ: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرا[2]، رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح، بل إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟ من أين لي هذا؟ لا يراه في عمله، فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك[3]، وهو حديث حسن، وكذلك قال ﷺ: من أحب أن تسره صحيفته، فليكثر من الاستغفار،)

والنبي ﷺ إمامنا، وقدوتنا، وحبيبنا، وأعظم الأمة، وأعبد العباد قال: إنه ليغان على قلبي، أي يتغشى قلبي، ويغطيه، ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة، هل النبي ﷺ يفعل المعاصي ليغان على قلبه؟ لا، لكن قالوا: بما يشتغل به من مصالح أمته، والمباحات أحيانًا، وما يكون من محاربة العدو، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك يشتغل به عن علي المقام، فيراه ذنبًا بالنسبة إلى عظيم منزلته مع أن هذه الأمور من الطاعات، لكن لما كان ﷺ قلبه مشغول دائمًا بالحضور مع الله، ومراقبة الله، وهو يذكر ربه، وهو مع ربه،كانت  تلك كالمزاحمة لذلك .

وأَكثروا من الاستغفار في كلِّ يومٍ وليلة، فإن نبيُّنا ﷺ وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» رواه البخاري. فكيفَ بنا نحنُ المقصرينَ المفرّطينَ في جَنْبِ الله.

يبتلينا ربنا تبارك وتعالى ببعض عواقب ذنوبنا ، رحمة بنا ، ليستخرج استغفارنا وتضرعنا ،

فبالاستغفار تنزل الأمطار ، وتكثر الأموال وتنبت الجنات والأشجار : ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا )) .

وبالاستغفار تستنزل رحمة الغفار: ((لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) .

وبالاستغفار يندفع ويرتفع العذاب ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) .

وبالاستغفار يُحَصَّلُ المتاع الحسن (( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى )) .

وبالاستغفار يُتَقَدَّمُ بين يدي المطالب العظام : كما دعا سليمان عليه السلام : ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) .

استشعروا عباد الله استغفاركم الذي ترددونه في صلاتكم

في استفتاحها وركوعها وسجودها وبين السجدتين وبعد سلامكم منها .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله ..

عباد الله : بيوتِ الله، أحبِّ البلادِ إلى الله، حيثُ يشهدُها الملائكةُ الأبرار، وعِبادٌ صالحونَ أخيار(لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)

فيلزم بها احْتِرَامُ بُيُوتِ اللهِ وَتَوْقِيرُهَا؛ بِالتَّجَمُّلِ لَهَا بِلُبْسِ الْمَلاَبِسِ النَّظِيفَةِ، وَالتَّطَيُّبِ، وَاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) فحريٌّ بالمسلمِ أن يُعظّم شأنَ صلاته، فيحافظَ عليها، ويخرجَ

إليها في هَيئةٍ حسنة، ولباسٍ حَسن، وريحٍ حَسن ،

فَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ ارْتِدَاءُ مَلاَبِسِ النَّوْمِ أَوِ ملابس الرياضة أو القصيرةً التي تكشفُ الفخذ عندَ الركوعِ والسجودِ والجلوسِ ، أو لكونِها ضيقةً تصفُ العورةَ وتبيّنُ حجمَها أَوِ الْمَلاَبِسِ الَّتِي تَحْمِلُ عِبَارَاتٍ أَوْ صُوَرًا أَوْ أَشْكَالاً لَا تَلِيقُ لِبُيُوتِ اللهِ ، وَالْمَلاَبِسِ الْمُتَّسِخَةِ ذَاتِ الرَّائِحَةِ المسنكرهة

ينبغي صونُ المساجدِ عنه رفعُ الصوتِ رفعاً يشوّشُ على المصلينَ والتالينَ ولو بقراءةِ القرآن أو الدعاء، فقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، وكذلك رفعُ الصوتِ بما يستقذرهُ الناسُ كرفعِ الصوتِ بالتنخّمِ والتمخّط من غيرِ ضرورةٍ ملجئة إلى ذلك.  فعظِّموا شرائعَ الله وحُرُماته ” ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ” ،

فاتقوا الله عباد الله، وعظّموا بيوتَ الله، وليربي المسلمُ نفسَهُ وولدَه وأهلَهُ على تعظيمِ بيوتِ الله


شارك المحتوى:
0