الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق المكلفين ليعبدوه، وأدرّ عليهم الأرزاق ليشكروه، ووضح لهم الأدلة والبراهين ليعرفوه، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي يتعين علينا أن لا ندعو غيره ولا نخافه ونرجوه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وجميع الذين اتبعوه. أما بعد:
معاشر المؤمنين: لقد خلق الله الخلق لحكمةٍ عظيمة وغايةٍ جسيمة، ألا وهي عبادته وحده سبحانه، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ومعنى يعبدون: يوحدون.
وقد كان بين آدم ونوح عشرة قرون، يقع من الناس فيها كبائر وجرائم من قتلٍ وغيره، ولم يرسل الله – عز وجل – إليهم الرسلَ بعدُ – على عظم خطر تلك الذنوب – حتى أشركوا مع الله غيره، وحينها فقد غار الله على خلقه، فأرسل رسله مبشرين ومنذرين، داعين إلى التوحيد، ومحذرين من الشرك، ما منهم من أحد إلا ويقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
وقد كانت الدعوة إلى التوحيد ملازمةً لدعوات الرسل؛ فهذا خاتمهم رسولنا – صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك على كل أحواله وفي جميع شؤونه: فقد بعثه الله بالنذارة عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد، وكان ذلك أساس دعوته في مكة، واستمر عليه عندما هاجر إلى المدينة، وكملت بها حينئذ الشرائع حتى مات – صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) قالت عائشة – رضي الله عنها – : (ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدًا) رواه البخاري ومسلم.
ولم يكتفِ – صلى الله عليه وسلم – بالدعوة إلى التوحيد، بل كان يرسل الدعاة للدعوة إليه، فقد ثبت في الصحيح أنه – صلى الله عليه وسلم – بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى).
ولما دفع الراية إلى علي – رضي الله عنه – يوم خيبر قال له (انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) رواه البخاري ومسلم.
وكان – صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى التوحيد في جميع الظروف حتى في حال الحرب، وهو متجه إلى الجهاد. فقد روى الترمذي عن أبي واقد الليثي – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين. يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}).
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: (هذه القصة تفيد أنّ المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أنّ قول الجاهل “التوحيد فهمناه” أنّ هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان).
وقد أدرك الصحابة ذلك، فقد نقل البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر عن ابن أبي مليكة قوله: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل” قال: ويُذكر عن الحسن: “ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق”.
اللهم إنّا نعوذ بك من الكفر. بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين:
لنعلم جميعًا أنه يجب علينا تعلم التوحيد، ولا بد لنا أيضًا من تعلم ضده الذي هو الشرك بالله من أجل أن نتجنّبه؛ فإنّ الإنسان إذا لم يعرف الشر فإنه حريٌّ أن يقع فيه وهو لا يدري، بل قد يظنه خيراً.
وإنّ من توحيد الله تعالى اعتقاد أنّه سبحانه هو المنفرد بعلم الغيب، قال تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله).
وإنّ مما ينافي التوحيد ويضادّه: العِرَافة والكِهانة، وإتيان العرّافين والكهّان ونحوهم ممن يدعي علم الغيب بأي طريق من الطرق.
والعرّاف اسم للكاهن والمنجّم والرمّال ونحوهم، وهو كلّ من أخبر عن المغيّبات، سواء عن طريق الشياطين، أو عن طريق الحَدْس والتّخمين أو عن طريق الخطّ في الرّمل، أو قراءة الكف والفِنْجَان، أو غير ذلك، وإن أظهر للناس أنه طبيب أو معالج ونحو ذلك من الأوصاف الخدّاعة.
فمن ادّعى مشاركة الله في ما اختص به من علم الغيب بعرافة أو كهانة أو غيرهما، أو صدّق من ادعى ذلك، فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه، وقد كذّب الله ورسوله.
كما أنّ الكهانة لا تخلو من الشرك؛ فإنّ الشياطين لا تخبر الكاهن إلَاّ إذا أطاعهم، وكفر بالله سبحانه وتعالى، وأشرك به، ونفّذ ما تمليه عليه الشياطين من الكفر والشرك، وإلَاّ فالشياطين لا تطيع المؤمن الموحّد؛ لأنه لا يطيعها، وإنما تطيع من يأتي على رغبتهم في الكفر بالله والشرك به.
وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن إتيان العرّافين والكهّان والذهاب إليهم حتى ولو لم يصدِّقهم، ولو قال: أنا أذهب من باب الاطلاع، قال – صلى الله عليه وسلم -: “من أتى عرَّافاً لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً” رواه مسلم، ولما سأل معاويةُ بن الحكم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العرَّافين قال: “لا تأتهم”.
وأما إذا أتاهم فصدّقهم فقد كفر بما أنزل على محمد؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” رواه الأربعة والحاكم وصححه، وعن عمران بن حصين مرفوعًا: “ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” رواه البزار بإسناد جيد.
عباد الله:
وإنّ من صور الكهانة المنتشرة في بعض المجتمعات والتي يُروّجُ لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يسمّى بـ “البروج” كبرج الثور وبرج العقرب وغيرهما التي يزعمون بأنّ من ولد في كلّ واحدٍ منها سيحصل له كذا وكذا، فهذا من ادعاء علم الغيب ومن الكهانة والتنجيم.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز – رحمه الله – ردًّ على ما تضمنته بعض الصحف من تمجيد بعض أعمال الجاهلية والفخر بها والدعوة إليها، مثل التعلق بالنجوم والأبراج والحظ والطالع : “إنّ ما يسمى بعلم النجوم والحظ والطالع من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها وبيان أنها من الشرك لما فيها من التعلق بغير الله تعالى واعتقاد النصر والنفع في غيره، وتصديق العرافين والكهنة الذين يدعون علم الغيب زورا وبهتانا، ويعبثون بعقول السّذّج والأغرار من الناس؛ ليبتزوا أموالهم ويغيروا عقائدهم”.
فيجب التحذير من خطر هؤلاء ومن الكهّان عمومًا، والتعاون مع ولاة الأمور؛ لأجل إراحة المسلمين من شرّهم، ووقاية المجتمع من خطرهم؛ لأنهم يقضون على عقيدة التوحيد وينشرون الشرك، ويبثون الخوف والرّعب بين الناس، ويُرهبونهم بما يقولون لهم من الكذب والوعيد والترهيب، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}، يعني: خوفاً.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا) اللهم صل وسلم على يا رب العالمين، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين.
اللهم احفظ ولاة أمرنا، ووفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك واجعل عملهم صالحًا في رضاك، اللهم وفقهم للقيام بالدعوة إلى التوحيد والسنة، وإزالة الشرك والبدعة، اللهم هيء لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.
اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحدود والثغور وفي الداخل يا قوي يا عزيز.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.
والحمد لله رب العالمين.
أعدها: بدر بن خضير الشمري، للملاحظات يرجى التواصل عبر الرقم:00966533646769
التحذير من الشرك والكهانة