الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا رادَّ لأمره ولا مُعقِّب لحُكمه، وكل شيءٍ بقضائِه وقدَره، ؛ لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا إله إلا هو سبحانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ أما بعد:
عباد الله : دِيْنُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِيْنُ الْفِطْرَةِ وَصَفَاءِ الْعَقِيْدَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيْمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْمَرْءُ وَجْهَهُ للهِ، وَيَتَحَرَّرَ مِنْ قُيُودِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الْإِخْلَاَصِ والْحَنِيفِيَّةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ فِي عُلَاه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وَلَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعُجُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ كان من أصول التوحيد الذي جاءَت به نصوصُ الوحي:
الحذَرُ من الخُرافات بجميعِ صُورها، ومن الضلالات بشتَّى أشكالِها ، فإنها من أعمال الجاهلية وهَدي أهل الضلال والباطل ، إذ هي اعتقادٌ مبني على الوهم والخرافة والظنون الفاسدة .
ألا وإن من تلكم الخُرافات: التشاؤُم واعتقادُ التطيُّر بما يكرهونَه طبعًا أو عادةً مُتوارَثة، مما هو سوء ظن بالله ومجلبة للأوهام والظنون ، واتباع لخطوات
الشيطان ، وضعفٌ في الثقة بالله والتوكل عليه ،
وإن من مقاصد الإسلام مُخالفة كل نقصٍ، والدعوة إلى كل كمال بشري، ومن ذلك مُخالفة الشريعة لأهل الجاهلية، وهي الأفعال التي سببها الجهل لا العلم والعقل
ومما هو شائع عند أهل الجاهلية ضعف التوكل على الله، لذا توهَّموا أسبابًا ضارة فتشاءموا وتطيَّروا بها وتركوا مصالحهم لأجلها، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ)، وهذه كلها من ظنون أهل الجاهلية وتعلقاتهم الباطلة . فجاء الإسلام بـ: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾.
قال ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين): التوكل نصف الدين. اهـ.
فلا يصح لأحد أن يجعل السبب الوهمي سببًا حقيقيًا فيتطير منه، كالتطير بسماع صوت الغراب، أو رؤية أعور أو أعرج، أو سماع بعض الأسماء، وهكذا. فإن هذه أسبابٌ وهمية، ومن تطيَّر منها وقع في الشرك.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك» ثلاثًا. رواه الترمذي.
كان ابن عباس رضي الله عنهما مع نفرٍ من أصحابه في
طريق فسمع أحدهم طائرًا يصيح فقال “خيرٌ خير” فقال ابن عباس رضي الله عنهما :«لا خير ولا شر» . وكان طاووس مع صاحب له في طريق فسمع صوت غراب يصيح فقال: “خير”، فقال :«وأيُّ خير عند هذا!!».
نعم عباد الله هذه مجرد تعلقات باطلة قد تعلق في القلب فإذا صدَّت المرء عن حاجته فقد وقع في بابٍ من أبواب الشرك وضربٍ من ضروب الجاهلية .
وهذا بخلاف الفأل، ففي الصحيحين :(لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ) قَالُوا «وَمَا الْفَأْلُ؟» قَالَ :(الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ).
عباد الله: الكلمة الطيبة حين يسمعها المؤمن وهو ماضٍ في حاجته تُحدِث له في نفسه سرورًا وفرحًا بأن يكون الرجل مثلًا عازمًا على إجراء عملية جراحية وقبل إجرائها سمع رجلًا اسمه سالم، فيتفاءل بهذا الاسم بأن يُشفى وأن يسلَم، فمثل هذا محبوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الفأل، وفرقٌ بين هذا وبين التطير فإن الفأل حُسن ظن بالله بخلاف التطير فإنه سوء ظن بالله.
اللهم احفظ لنا توحيدنا وجنبنا ما يُسخطك وقوِّ توكلنا عليك وإنابتنا إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
عباد الله : القرآنُ الكريمُ – كما يقول ابنُ القيم – رحمه الله -: “لم يُحكَ التطيُّر إلا عن أعداء الرُّسُل المُخالِفين للتوحيد الخالص والعقيدةِ الصافِية”.
فإن مما كان يتطير به أهلُ الجاهلية شهرَكم هذا شهر صفر، وقد أبطل هذا الإسلام؛ لأن شهر صفر ليس سببًا حقيقيًا لحصول أضرار أو مصائب، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا عدوى ولا صفرة ولا هامة» متفق عليه
قال البغوي : “وقيل إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك”. اهـ.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: “ولعل هذا القول – أن المراد به شهر صفر – أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها” . وقال رحمه الله :” قال الحافظ ابن رجب: “وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو نحوه، فغير صحيح، وإنما الزمان خلق الله تعالى وفيه تقع أعمال بني آدم: فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله تعالى فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى”
ومن مداواة البدعةِ ببدعةٍ أخرى قول بعض الناس: صفر الخير. وهذا خطأ، فلا يُقال صفر الخير ولا الشر، وإنما هو كبقية الشهور.
اللهم يا من لا إله إلا أنت قوِّ إيماننا وتوكلنا وتوحيدنا ولا تكلنا إلى أنفسنا يا رب العالمين، اللهم احفظ لنا توحيدنا الذي به نجاتنا، وزدنا توحيدًا وتقى ورضا لك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأهلك الكفرة يا أرحم الراحمين، اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لما فيه رضاك واجعلهم رحمة على المسلمين ووفق جميع حكام المسلمين لذلك.