الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الوهاب ، غافر الذنب، و قابل التوب، شديد العقاب . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلمياً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فإن الله قد حذركم نفسه فقال عز وجل : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )
وقال تعالى متوعداً أهل معصيته ومرغباً في التوبة والإنابة إليه ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) فتوعد من خالف أمره ببطشه الشديد، ووعد من تاب واستغفر وأناب بمغفرته لذنوبه بل وبمحبته لهم
عبد الله! هل أتاك خبر تلك المرأة المؤمنة ، إمرأة ضعيفة!. . عصفت بها لحظة من لحظات الضعف فوقعت في الفاحشة ، وغفلت عن رقابة الله للحظات، لكن حرارة الإيمان وخوفها من الرحمن أقَضَّت مضجعها فلم يهدأ بالها ولم يقر قرارها قائلةً “عصيت ربي وهو يراني كيف ألقاه وقد نهاني”: إنها قصة امرأة صادقة في توبتها .
والمعصية تتأجج ناراً في قلبها، فقالت: يا رسول الله أصبت حداً فطهرني، فينصرف عنها صلى الله عليه وسلم فيُشيح النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها بوجهه، فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبتُ حدًا فطهرني. . فيقول الرؤوف الرحيم -صلى الله عليه وسلم-: ( وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ )، وفي الغد تأتي وتقول: لِمَ تردني يا رسول الله، لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى من الزنا, فقال صلى الله عليه وسلم لها: «اذهبي حتى تلدي»، فيا عجباً لأمرها تمضي الشهور والأيام وحر المعصية يتأجج في صدرها وتأتي بالصبي في خرقة تتعجل أمرها.
يا رسول الله ها قد ولدته، فطهرني. عجباً لها فقال:
اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه, سنتان ولم يطفئ حرَّها، فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز دليلاً لها، وقالت: «قد فطمته يا رسول الله»، وأكلُ الطعام بُرهانها.
فدفع صلى الله عليه وسلم- الصبي إلى رجلٍ من المسلمين، ثم أُمر بها فحفُر لها إلى صدرها وأُمر بها فرجمت، فيُقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فينضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي – صلى الله عليه وسلم- سبّه إياها, فقال: «مهلاً يا خالد، فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وُزعت على أهل المدينة لكفتهم».
لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ لغُفر له، فصلّى عليها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم – ودعا لها.
ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ.
وفي رواية أخرى أن عمر -رضي الله عنه- قال: تُصَلِّي
عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى)
عباد الله:..التوبة أن يقف العبد المذنب المقصر, وكلّنا مذنبون وكلنّا مقصّرون، يقف العبد التائب أمام ربه مُنكسر القلب خاشع الجوارح,
التوبة إقلَاعُ عَن الذَّنبِ، وَتَركُ لهُ ومبَاعدة عَنهُ وَعَن أَسبَابِهِ، فمن كَانَ متساهلا في الصَّلَاةِ بَادَرَ بِفِعلِهَا وَالمُوَاظَبَةِ عَلَيهَا، ومن كَانَ عَاقًّا لِوَالِدَيهِ أَو قَاطِعًا لِرَحِمِهِ غَيّرَ ذَلِكَ بِالبِرّ وَالصِّلَةِ، ومن كَانَ واقعا في النظر إلى الحرام جاهد نفسه في قطعه ، ومن كان مطلقا سمعه لما حرم الله راقب الله أن يأخذك على معصيته ففي صحيح مسلم ( مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ ) ، يا من تعوّدت على أكل الحرام تب إلى الله وعد إلى الحلال قبل أن يهجم عليك ملك الموت ، ثم يندَمُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ مَعصِيَةِ رّبه جَلّ جلاله ، فيَتَذَكّرَ عَظَمَةَ رَبِّهِ سُبحَانَهُ، واحسانه له ، فَيَستَحِيَ مِمَّا اقتَرَفَتهُ يَدَاهُ، وَيَحزَنَ عَلَى حَالِهِ الماضية في معصية ربه، فيَعقِدَ العَزمَ عَلَى أَن لَا يَعُودَ إِلَيهَا أَبَدًا،
إِنَّ التَّوْبَةَ الصَّادِقَةَ مَبْدَأُها نَدَمٌ في القَلْبِ عَلَى الخَطَأِ وَالزَّلَلِ،
يقول تعالى: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
سبحانه غفورٌ رحيم، من أعظم منه جوداً والخلق له عاصون وهو يراقبهم ويكلأهم ويحفظهم كأنهم لم يعصوه.
من ذا الذي دعاه فلم يجبه، من ذا الذي سأله فلم يعطه، من ذا الذي رجاه فقطع رجاه، هو الفضل ومنه الفضل، وهو الجواد ومنه الجود.
وهو الكريم منه الكرم ومن كرمه أن غفر للعاصين إذا رجعوا إليه ، فالتًّائِبُونَ هُمْ أَحْبابُ اللهِ، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )
فلنتب إلى الله تعالى ولنكثر من الاستغفار فالذنوب كبيرة والخطايا كثيرة ولكنْ عفوُ الله أعظم وفضل الله أوسع فلنتعرض لفضله وجوده، ورحمته وعفوه. بالتوبة والإنابة وكثرة الاستغفار في الليل والنهار.
أقول هذا القول وأستغفر لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعْدُ:فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَأَكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفارِ، فَما مِنَّا إِلاَّ ذُو خَطَأٍ وَزَلَلٍ وَعِثارٍ، وَمَنْ تابَ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، فالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ ، وليست التوبة لأصحاب الفواحش والمنكرات فقط، بل هي لكل مؤمن.
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) [التحريم:8].
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم – كان «يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة، وفي رواية أكثر من مائة مرة» [رواه البخاري].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد: «رب اغفر لي وتب عليَّ؛ إنك أنت التواب الرحيم» [رواه البخاري في الأدب المفرد: «618» وأخرجه أحمد: «4726»].
والله جل وعلا ينزل إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله كل ليلة، فيقول: «هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من صاحب حاجة فأقضيها له ؟ هل من مستغفر فأغفر له»؟.
إِنَّ العِبادَ إِذا تابُوا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبْوابِ العَطاءِ وَالهِباتِ وَالمِنَنِ ما تَصْلُحُ بِهِ أَحْوالُهُمْ، وَتَسْتَقِيمُ بِهِ أُمُورُهُمْ، قالَ اللهُ تَعالَى فِيما قَصَّهُ عَنْ رُسُلِهِ: ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) ، فَإِنَّ اللهَ تَعالَى يَفْتَحُ الأَبْوابَ وَالعَطايا لِكُلِّ قَوْمٍ تابُوا وَصَدَقُوا في تَوْبَتِهِمْ إِلَى اللهِ – عَزَّ وَجَلَّ-.