الدنيا والغفلة عن الموت
الحمد لله الذي خلق عباده فقسم أرزاقهم، وضرب آجالهم، نحمده على ما أعطانا، ونشكره على ما أولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقضي على المؤمن بقضاء إلا كان خيرا له، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:{يا أيها الذين أمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
عباد الله: يقول المولى جل وعلا :(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وقال تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
عباد الله : إنها الدنيا ، أنفاس معدودة وآجال معلومة وأرزاق مقسومة، قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ}
دنيا هي دار ممر ، والآخرة دار المستقر فتزودوا من ممركم إلى مستقركم وتأهلوا ليوم العرض على ربكم فاليوم عمل ولاحساب وغدا حساب ولاعمل .
إنها الدنيا دار غرور ونكد ، مهما ازينت لأصحابها فإن قصيرة ، وقصر مدة لذائذها بالنسبة لطولها كمدة زينت النبات حينما يخضر ، لمدة اشتغال صاحبه فيه ، فإن صاحب الزرع والنبات ما يفتأ يشتغل بزرعه طول وقته ثم ما يلبث زرعه متزينا مثمرا إلا وبسرعة تراه يهيج ويصفر ثم يكون حطاما ثم يعود صاحب الزرع للتعب والمشقة.
شاهدوا هذه الرياض الخضراء أياما ثم تكون أرضا غبرة وهكذا هي الحياة الدنيا فإنها طبعت على كبد وحفت بالمكاره وأيام لذائذها بالنسبة لطول عمر الإنسان أيام محدودة.
ولهذا فإن من حقارة الدنيا عند الله أنه لم يخص بها المسلم المنقاد له ، بل جعل لذتها للمسلم والكافر و للمؤمن والفاجر والصالح والفاسد ، يؤتيها من يشاء ويأخذ من زينتها كل أحد بقدره، كالزرع يأكل منه الناس ويأكل منه الانعام فعدم الاختصاص بها دليل على قيمتها الزهيدة .
عباد الله : هذه الدنيا الى نهاية ، كم شيّعنا من الأقران، كم دفنّا من الإخوان، كم أضجعنا من الجيران، كم فقدنَا من الخِلاّن .
كل ابن انثى وإن طالت سلامته ….يوما على آلة حدباء محمول
فالموت يا عباد الله …لا يعرف صحيحاً ولا مريضاً ،ولا صغيراً أو كبيراً .
فكم من صحيح مات من غير علة.. وكم من مريض عاش حيناً من الدهر
فاستعدوا للموت عباد الله قبل أن يفاجئكم، قال أبو الدرداء رضي الله عنه وهو يحتضر: “ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟” ثم بكى، فقالت له امرأته: “أتبكي وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فقال: “ومالي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي”، وروى ابن المبارك : أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي؟
فتخيل يا عبد الله نفسك وأنت على فراش الموت تعاني مرارة الموت، وتخيل ممشاك محمولا على الأكتاف إلى القبر، وتخيل مبيتك فيه وحيداً فريداً في حفرة ضيقة مظلمة مغلقة محكمة، تخيل أول ليلة تبيتها وأول نزلة تنزلها وأول سؤال تسمعه في القبر: “من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟”، وروى ابو داود في الزهد عن أنس رضي الله عنه قال: ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن وذكر منهن هذه الليلة)
روى الطبراني وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه قال: قال :رسول الله صلى الله عليه وسلم _من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال : لليلتين و أن تتخذ المساجد طرقا ,و أن يظهر موت الفجأة .ثم إن للموت لفزعا ورهبة .
ذكر الموت عباد الله يقلل كل كثير ويكثر كل قليل، ويزهد في الدنيا، ويعين على العمل الصالح
فيامن بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل
أدبرت الدنيا وأقبلت الآخرة ولكل بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولاتكونوا من أبناء الدنيا وإياكم والأمل فإنه يصدكم عن التوبة وإياكم والهوى فإنه يصدكم عن الحق .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والحكمة أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه.وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله : إنه من الخطير حقًا أن نتأفف من ذكر الموت وأسبابه ، نراعي في ذلك مشاعرنا، كيف وقد قال النبي : (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
قال الله تعالى : {بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة} وقال تعالى : {بل تؤثرون الحياة الدينا * والآخرة خير وأبقى}
في الصحيحين عن عمرو بن عوفِ الأنصاري رضي الله عنهُ،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فال :(الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
عباد الله هلا استعدادا للموت! فمتى يستعد للموت من هجر القرآن، وتساهل في صلاة الجماعة ، متى سيستعد للموت من لوث لسانه بالغيبة والنميمة وامتلأ قلبه بالحقد والحسد وسمعه بالغناء والمزامير، وضيع أوقات عمره في قيل وقال .
فلا تؤثروا عباد الله : الفاني على الباقي فإن من فعل ذلك فقد خسر خسرانا مبينا.
قال الله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وصلوا وسلموا عباد الله على محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
اللهم ارزقنا حبه والعمل بسنته ظاهراً وباطنا، اللهم احشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه يارب العالمين.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك وهب لنا غنا لا يطغينا وصحة لا تلهينا وأغنى اللهم عمن أغنيته عنا يا أرحم الرحمين.
الله أعن وسدد وأنصر إخواننا المجاهدين المرابطين على
ثغور بلاد الحرمين يا قوي ياعزيز
اللهم وفق حكام المسلمين لما فيه خير لرعاياهم، وأجعلهم مفاتيح كلِ خير مغاليق كلِ شر يارب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم أمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا .
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنزلت علينا من الغيث، اللهم تابع علينا خيراتك، اللهم اجعل ما أنزلته صيبا نافعاً، وعطاء مشفوعاً برضى. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
أحمد آل عبد الله