( السلفية والوطن )
إنّ الناظر في مكونات المجتمع يرى أنّ أهم مكونين رئيسيين للمجتمع، حظيت في الشريعة الإسلامية باهتمام بالغ؛ هما الأسرة والوطن(الدار) ، وذلك لإسهام هذين المكونين بشكل أساسي في إقامة الدين، وتهيئة الدنيا؛
فالوطن بطبيعته يتكون من عدة عناصر، وتفاعل بين هذه العناصر، وهي ثلاثة عناصر: الراعي، والرعية، والأرض.
ويقوم مفهوم الوطن بعناصره الثلاثة على ركن واحد وهو التفاعل بين هذه العناصر بشكل متناسق لتحقيق المصلحة، ومن سنن الله الاجتماعية: أنّ هذا التفاعل لا يمكن أن تضبطه إلا السلطة الحاكمة ألتي شرعها الله وجعلها من الدين، وذلك لأن هذا التفاعل عمل بشري يدخل فيه الخطأ والصواب ، والسلطة الحاكمة في الإسلام هي الولاية العامة والإمامة،
والوطن متمثلاً في عنصر الولاية لا يمكن أن يقويه ( ينصره ) إلّا الرعية ( الشعب ) قال صلى الله عليه وسلم، وهو في سوق عكاظ قبل الهجرة ( ألا من ينصرني لأبلّغ دعوة ربي ) وهي إقامة الدين، فكان شعب الأنصار – رضي الله عنهم-.
وتكوّن الوطن فإقامة الوطن مُنطلقٌ لإقامة توحيد الله، وما قيام الدولة السعودية عنّا ببعيد، فلما قامت الدولة ( الوطن) زمن الإمام محمد بن سعود – رحمه الله -أقام الله بها التوحيد، وهو لب الدين ومخه، ومحى بها معالم الشرك في جزيرة العرب؛
لذلك اهتم الإسلام بهذين المكونين فالأسرة في تكوينها قائمة على الولاية والطاعة، وعلى الرعاية والحماية في نفس الوقت، وكذلك الوطن جعله في تكوينه قائم على الولاية والطاعة، وعلى الرعاية والحماية في نفس الوقت وبتعبير أدبي صارت الاسرة هي العائلة الصغيرة. والوطن هو العائلة الكبيرة
قال صلى الله عليه وسلم ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ راعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)) متفق عليه
فنجد إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث مؤسستين اجتماعيتين رئيسيتين: وهما الأسرة، والوطن؛ لارتباطهما ببعضهما البعض،
وموضوعنا هنا عن المُكوّن الاجتماعي المهم وهو الوطن ( الدار ) فإن الشريعة الإسلامية أولته اهتمام كبيرا فجعلت من أسباب بقائه بالصورة الحقيقية العملية الاهتمام بعنصر الراعي أي الولاية العامة وأحاطته بأحكام أكثر من غيره؛ وذلك لأن الناس إلا ما رحم الله يهتمون في الغالب بشهواتهم وأهدافهم القريبة، ولا يولون اهتماماً بالولاية العامة، بل إن كثير منهم يفتخر بالتمرد عليها .
لقد كان عنصر الولاية العامة مهملاً ومختلاً في زمن الجاهلية، كما ذكر ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- في كتابه (مسائل الجاهلية)، فالشارع الحكيم اهتم بأمر الراعي حفاظاً على وحدة الوطن؛ لتتحصل منه المصلحة المعتبرة شرعاً، والمرجوة من وجوده وهي إقامة الدين وسياسة الدنيا ولا يتأتى هذا مطلقاً إلا بالولاية الشرعية القائمة على البيعة المعتبرة شرعاً ،
ولقد أولى الشارع الحكيم بهذا المكون الاجتماعي وهو الوطن ( الدار ) اهتماماً كبيراً، فجعل من أمر الإخلال به جريمة عظيمة، بل وجعل من يفعلها من كلاب أهل النار وهم الخوارج، والملاحظ في الخوارج أنّ أوّل ما يتوجهون إليه لضربه هو الإمام ليس لذاته وعينه، بل لأنه أساس في وحدة الوطن لارتباط البيعة به، والتي لا يمكن أن تكون لأي جهة أُخرى مهما كان اسمها أو رسمها، سواء حزب أو جمعيه أو أخويّه أو جماعة ضغط إلى آخره،
والسبب في ذلك أن مفهوم البيعة يقوم على الوحدة وهذا جانب مهم من جوانب الوحدة الوطنية، ولا تجد قيام هذا المفهوم قياماً حقيقياً وهو الوطن ووحدته وارتباطه بأهم أسباب بقائه وهي الولاية العامة الشرعية القائمة على وحدة البيعة للإمام إلّا عند السلفيين أهل السنة والجماعة، فمن جهة جعلوا الحفاظ على الوطن (الدار) مؤدّاه من أصول الدين وذلك لارتباطه ارتباطاً وجودياً بأصلٍ من أصول الدين وهي الولاية العامة أي: الإمامة .
وكل ما سبق من التوضيح هو من صميم المعتقد السلفي، ولا تجده بهذه الصورة مؤصلاً إلا عندهم إن السلفية خير من يتعامل مع العناصر المكونة للوطن وتستوعبها بصورة متكاملة ومتوازنة، فهي تعطي كل عنصر حقه ومستحقه، فالسلفيون الصق الفرق الإسلامية بمفهوم الوطنية لأنها نابعة عندهم من العقيدة السلفية، والعقيدة عندهم من الثوابت.
أضف إلى ذلك أنّ الوطن أيضاً مرتبطٌ عندهم ارتباطاً وجودياً بالرعية، فلها عندهم أحكام من حقوق وواجبات، وكذلك المحل في وجوب المحافظة عليه من ثغور وثروات. ومن باب (وبضدها تتبين الاشياء)
فلو استعرضنا الفرق الإسلامية في موقفها من الوطن وعناصره، وخصوصاً الولاية العامة،
ونأخذ أكبرها وأكثرها انتشاراً، وهم الأشاعرة؛ فلأنهم مرجئة أخرجوا الولاية العامة، وأحكام الخروج عليها من دائرة العقيدة والثوابت إلى دائرة الأحكام المتغيرة التي يجوز فيها الاختلاف، فالخروج عندهم يقع عليه الوجوب في حالات، والجواز في حالات، والحرمة في حالات أُخرى،
فصارت الولاية العامة ألتي هي عنصر أساسي في الوطن، وجودها وانتقاصها خاضع للاجتهاد الفقهي الذي يدخله الرأي والاختلاف، وليس جزاءً من العقيدة مما يسبب زعزعة لمفهوم الوطنية، قال الجويني الأشعري: (وإذا جار والي الوقت وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصبه )
فانظر إلى سهولة الدماء عند الجويني وهو من أئمة الأشاعرة، وأعلاهم مرتبة فلا يمكن للوطنية أن تترعرع ويحافظ عليها بوجود هذا الموقف، وهذا المعتقد وهو إخراج الولاية من دائرة العقيدة.
أما السلفيون فيجعلون الولاية العامة من أصول الدين، وليست من الأحكام الفقهية فتجد الولاية العامة والبيعة مذكورة في كتب العقيدة.
وأما الصوفية فحدث ولا حرج فلا يوجد عندهم مفهوم وحدة البيعة أبداً، فتجد الشخص منهم يبايع شيخ الطريقة، وشيخه ليس من أهل الولاية العامة، وهذه بيعة منقوصة وغير شرعية، بل منتقضة لأنه بأدائه الولاء والطاعة لشيخ طريقته، فلن يكون له ارتباط بوطنه، ولو بايع شيخ الطريقة مع إمام بلده فبيعته لإمام البلد منتقضة، فأساس البيعة يقوم على الوحدة مما يعزز مفهوم وحدة الوطن ( الدار) فيحدث الخلل في الوطنية، بل الانتقاض.
وأما السلفية فعلى خلاف الصوفية في هذا الأمر، فهي تدعو إلى وحدة البيعة المؤدية إلى وحدة الوطن، وهذا ظاهر في الأدلة الشرعية .
ولو رأيت المعتزلة -وهم يشبهون الخوارج في هذا الباب ويجعلونه من العقيدة – لوجدتهم يوجبون الخروج على الإمام الذي ظلم في نظرهم ولو لمرة واحدة بسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أصل عندهم لكنه على غير الوجهة السلفية، فهم يعنون به الخروج على الولاة .
أما السلفي فلا يضحي بوطنه وذلك بتضحيته بعنصر الولاية العامة ( الراعي ) من أجل مطمع دنيوي ، أومن أجل أمر لا دليل عليه، أو بسبب خلل هو لا شيء بالنسبة لمصلحة بقاء الراعي قائماً .
ففي المعتقد السلفي أنه ببقاء الإمامة ( الولاية العامة ) يبقى الوطن قائماً، ونجد كذلك من الفرق الإسلامية التي فيها نوع باطنية، وهم جماعة تنظيم الإخوان أن الوطن لا يشكل في بنائهم الفكري، وفي عقيدتهم السياسية ( الإيدلوجية )، وجوداً أبداً مثلهم مثل الصوفية،
والسبب في ذلك واضح؛ لأن الولاية الشرعية منتقضةً عندهم محرفه بسبب البيعة للمرشد، أو وكيله مما يخل بالوطنية عندهم، بل ينقضها من أصلها لأنهم يعدون الوطن عائق في تحقيق ما يسمونه بالعالمية، وهي في حقيقتها سيطرة منظمة الإخوان على عدد كبير من الدول من العالم، وخصوصًا الدول الإسلامية،
فقد كتب حسن البنا مؤسس الجماعة الإخوانية مؤصّلاً لهذا الأمر فيقول في كتابه ( رسائل الإمام ) في رسالة التعاليم تحت عنوان ( أركان البيعة ) ((و نظام الدعوة – في هذه المرحلة – صوفي بحت من الناحية الروحية , وعسكري بحت من الناحية العملية , وشعار هاتين الناحيتين (أمر وطاعة) من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج ))
وبهذه الخطوة العملية العلمية نقض حسن البنا مفهوم الوطنية عند أتباع الجماعة الإخوانية بنقضه لمفهوم الإمامة، وتحريفها لصالح المرشد، وما تعامُل بعض من ينتمون لتنظيم الإخوان مع مفهوم الوطن وتظاهرهم بالوطنية إلا مرحله يتخفون من ورائها لتحقيق عالمية منظمة الإخوان، حتى الخلافة الاسلامية لا يرون لها وجوداً إلا وجوداً صورياً تتخفى من ورائه هذه المنظمة.
أما السلفية فهي تجعل المحافظة على الوطن من الواجبات المتحتمة على كل فرد؛ لأن الوطن في المعتقد السلفي مرتبط ارتباطاً وجودياً بالولاية العامة الشرعية التي لا يملكها إلا ولي الأمر العام؛ لأن السلفية تُقرّ بمبدأ تعدد الأقاليم، ويكون كل إقليم مستقل، له ولي أمر مستقل له سمع وطاعة،
وهذا متقرر عند السلف، وبهذا، وما سبق من تأصيل يكون السلفيون هم الوطنيون حقاً، و تكون السلفية هي أفضل من أخذ بمبدأ الوطنية واستوعبه ووضع الوطن في موضعه الطبيعي، وإذا كان في موضعه الطبيعي فسيؤدي مهمته بقوة، قال الله تعالى ( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ۚ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا )
نلاحظ هنا في الآية أنّ الذي عنده خلل في البيعة والعهد كباقي الفرق الإسلامية، ل ايرعى في الحقيقة للوطن حقاً أبداً، وهو أوّل من يهدم و يخون ويسمح للعدو بأن يضرب الوطن ويهدمه؛ سواء استوعب أو لم يستوعب.
أسأل الله أن يحفظ على المسلمين ديارهم وأمنهم وولاة أمرهم امين ا.هـ
كتبه
أخوكم عبدالله بن محمد بن عبدالله الشبانات
في يوم الأربعاء
الموافق 4 / 5 / 1438هـ