السُنَّةُ: (احذروا بئس أخو العشيرة)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ اما بعدُ:
فقد روى البخاري (6131)، ومسلم (2591) في ” صحيحيهما” من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ” ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة ” وفي رواية لمسلم قال: ” بئس أخو القوم وابن العشيرة “، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله ! قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة، متى عهدتني فحاشاً، إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة؛ من ودعه، أو تركه الناس اتقاء فحشه “. وفي رواية للبخاري: “من تركه الناس اتقاء شره”.
وهذا الحديث ذكره محمد بن إسماعيل البخاري في “الصحيح” في كتاب الأدب في ثلاثة مواضع: (6032 ، 6054 ، 6131 )، وكل موضع بوَّب له من فقهه، فذُكِرَت في ثلاثة أبواب هي:
1. باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا
2. باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرَّيَبِ
3. باب المُداراة مع الناس
ويُذْكر عن أبي الدرداء إنَّا لنُكشِرُ في وجوهِ أقوام؛ وإن قلوبنا لَتَلْعَنُهُم .
وما ذكره معلقا من قول أبي الدرداء: (إنَّا لنُكشِرُ في وجوهِ أقوام؛ وإن قلوبنا لَتَلْعَنُهُم)؛أي: نظهر البشر والابتسامة، والقلوب تبغضهم لأعمالهم.
وأما مسلم بن الحجاج النيسابوري فقد ذكره في “الصحيح” في “كتاب البرّ والصلة والآداب”، وقال النووي في “شرح صحيح مسلم”: باب من تركه الناس اتقاء فُحْشه.
من ذلكم المبهم؟:
والراجح أنه عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال والقاضي عياض والقرطبي، وقيل مخرمة بن نوفل، قال الحافظ فيحمل على التعدد، وهذا قول مرجوح، ويبعد أن يقال ذلك في حق الصحابي الجليل مخرمة، لما قاله الخطيب والقاضي، فمخرمة بن نوفل كان من خيار الصحابة.
شرح بعض المفردات:
• قوله: “فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة “،
وفي رواية للبخاري: ” بئس ابن العشيرة “
وفي رواية لمسلم قال: ” بئس أخو القوم وابن العشيرة “؛ أي: الجماعة أو القبيلة أو أقارب الرجل وأهله من الأصول كالأب والجد ومن علا .
• جاء ذكر ( العشيرة) في السنة، ولفظ العشيرة ثابت في الكتاب والسنة، قال تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }[الشعراء: 214]، وقال: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ..الآية [التوبة : 24]، والعشيرة والعشائر مرتبة دون القبيلة والقبائل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الححرات: 13].
• وفيه أن الاستئذان ثابت في الشرع والعرف، ففي الرواية قوله: أن رجلا [استأذن ] على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ” ائذنوا له”.
• قوله: “من تركه الناس اتقاء شره”؛ أي: المراد: قبيح كلامه .
فوائد من الحديث:
1. هذا وصف ليُعلم حاله فيُتَّقى ويحذر منه، وليس من الغيبة .
2.”يا عائشة، متى عهدتني فحاشاً”: فيه التنبيه على حُسْنِ أخلاقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
وكذلك فيه وحيٌ وتشريعٌ لاتقاء فحش الكلام، والحذر من إيذاء المسلمين، وأخذ الحيطة من الوقوع فيما يوجد الوحشة، ويفرّق الكلمة؛ وتصاب القلوب بداء الاختلاف .
3. وهذا فِعْلٌ سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم؛ منهجا وطريقة وبياناً لكيفية التعامل مع من هذا وصفه وحاله؛ من سلاطة اللسان واطلاقه بلاضابط ولارابط.
4. قلت: وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر من الوصف وبيان الحال، للاحتياط من مسلكه وأمثاله، ومنهح المعاملة الشرعية مع المصاب بهذا الانحراف وأمثاله.
5.إياك ومجاراة (بئس أخو العشيرة )، فلا يناظر، ولايجادل، ولايناقش، فمن كان في أمر على غير سبيل المؤمنين؛ فاعلم أنه لاحيلة فيه، وعليك بالسنة مع من أُبْتُلي بهذا الحال.
• وقد يلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يباشر هجره، والإعراض عنه تأديبا له، ولعله يُغَيّر من خُلُقه، ويعالج حاله، رغم أن هجره كان بمقدور النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أبَى الصلاح والإصلاح، ولم تنفع معه المداراة بالتأليف وغيره، يكون الابتعاد أو الهجر لاتقاء فحشه وشره، سلامة للنفس والعرض، والإعراض عن الجاهلين شفاء من الأدواء، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، قال ابن سعدي في تفسيره:{ سَلامٌ عَلَيْكُمْ }؛ أي: لا تسمعون منا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم، فإننا ننزه أنفسنا عنه، ونصونها عن الخوض فيه، {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} من كل وجه.
• بيان أن الهجر الشرعي مبناه على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولذا تلطف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول تأليفا له (ألان له القول)، ودرءً لمفسدة أكبر.
5. بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم وجود بعض الناس، هم من أبناء جلدتنا وفي عداد المسلمين، ولكنهم لايألون الجهد في إيذا المؤمنين والنيل من أعرضهم من غير حجة بيّنة .
6. والسبب في ذلك أنه يجد من يصدق كلامه وفحش مقاله، فيسيء إلى نفسه (بئس أخو العشيرة) ويسيء إلى غيره.
7. دفع الفرقة والخلاف عن جماعة المسلمين، وأن التجاوز باطلاق اللسان في أعراض الناس شرّ (اتقاء شرّه، وفحشه)، ومنه ما رواه البخاري (48)، ومسلم (48) في “صحيحيهما” من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر”. وقوله: “سباب المسلم “؛ أي: إيذاء المسلم بالتكلم في عرضه وشتمه، بلا موجب مبيح لرفع الإثم، أو وجود وجه شرعي لحجة تقتضي ذلك.
8. ويستفاد من الحديث أعلاه
أن بعض الناس قد ابتُلي في نفسه وأصبح بلاء وداء على غيره، بالكلام المخالف للكتاب والسنة، والأصول والقواعد السلفية، فصار ديدنه النيل من أعراض إخوانه من أهل السنة، وكذلك غير إخوانه، فلايسلم منه أحد، دون مسوّغ شرعيَّ؛ فبعض الناس فاحش سيء الخلق، متفحش قبيح القول رديء الكلم، لا يَعبأ بالمحاذير الشرعية التي حصَّنت أعراض المسلمين.
(النيل من الأعراض غيبة وايذاء للمؤمنين)
ولايخفى على أهل العلم مسألة الغيبة والتعرض للعرض؛ وأن الأصل فيه الحرمة لا الإباحة، وعدم الخوض في الأعراض إلا فيما استثناه الشرع وأصبح بيانه الكلام فيه؛ حالة خاصة للأدلة الشرعية مستثناة من الأصل، وقد وقفنا على كثيرٍ من الأدلة والنصوص الشرعية تظافرت في بيان أن الإعلام بحال المخالف بلا إفراط ولاتفريط، من المقاصد الشرعية المرعية لحفظ الإسلام وأهله..
ولذا قال النووي فى “رياض الصالحين”: [باب ما يباح من الغيبة]:
“اعلم أن الغيبة؛ تُباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب … قال:
الأول: التظلم:
فيجوز للمظلوم أن يتظلم للسلطان والقاضي وغيرهما، ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه.
الثانى: الاستعانة على تغيير منكر ورد العاصي إلى الصواب.
الثالث: الاستفتاء:
فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو فلان بكذا.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم: ومنها؛ جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه وبدعته.
السادس: التعريف:
فإذا كان الإنسان معرفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم، جاز تعريفهم بذلك. اهـ
وقد نُظمت هذه الستة فقال :
القدح ليست بغيبة في ستة
متظلم و معرف و محذر
و مجاهر فسقا و مستفت و من
طلب الإعانة في إزالة منكر.
تنبيه: من الأمور التي جعلت بعض النفوس والأجساد وعاء للخبث والشر، مما صَيَّرها أداة خلاف وتفريق وإفساد.
ومن ذلك مثل الحسد، وعدم التوفيق بالحرمان من عمل الخير مع علمه به.
قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (10/ 124): والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس؛ ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، وقد قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك؟! ولكن عمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا. فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس عندهم دين لا يعتدون على المحسود، فلا يعينون من ظلمه، ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه، ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه، مفرطون في ذلك، لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضًا في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب.
ومن اتقى اللّه وصبر فلم يدخل في الظالمين، نفعه اللّه بتقواه. اهـ
* وأما الحرمان من فعل الخير، وعدم التوفيق له وللعمل بما علم، فهذا ابتلاء؛ وإن الموفق من عُوفي منه وسَلِم َ.
قال ابن حزم في “مداواة النفوس” (ص25): “وقد رأيتُ من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جداً، ورأيتُ ممن طالع العلوم، وعرف عهود الأنبياء – عليهم السلام -، ووصايا الحكماء، وهو لا يتقدّمه في خبث السيرة، وفساد العلانية والسريرة؛ شرار الخلق، وهذا كثير جدا، فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى”.اهـ
والموضوع يحتاج المزيد والتوضيح، فاللهم نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا، والتوفيق لسنة سيد المرسلين، ومجانبة البدع والأهواء وطريق المنحرفين، والحمدلله رب العالمين.
كتبه . عبد العزيز بن ندى العتيبي
13 جمادى الأولى سنة 1435
يوافق 14/ 3/ 2014 (بالإفرنجي)