الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرًا، أما بعد:
فإنّ الله – عز وجل – أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق الجنّ والإنس والسماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
وقد جعل سبحانه الليل والنهار وقتًا لتلك العبادة، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، قال ابن كثير – رحمه الله -: ” جَعَلَهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، تَوْقِيتًا لِعِبَادَةِ عِبَادِهِ لَهُ، فَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي اللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ فِي النَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي النَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ فِي اللَّيْلِ”.
وقد نبّه الله – عزّ وجلّ – عِبَادَهُ عَلَى آيَاتِهِ الْعِظَام، وَمِنَنِهِ الْجِسَامِ، فِي تَسْخِيرِهِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَدُورَانِ، و اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ، واختلافهما في الحر والبرد والتوسط، وفي الطول والقصر والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ}، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أَيْ: لَدَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ حُجَجَه. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} قال ابن كثير – رحمه الله -: “يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بِمَعْنَى: يَأْخُذُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، فيطولُ ذَلِكَ وَيَقْصُرُ هذا وَهَذَا يَكُونُ زَمَنَ الصَّيْفِ، يَطُولُ النَّهَارُ إِلَى الْغَايَةِ، ثُمَّ يُسْرِعُ فِي النَّقْصِ فَيَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَهَذَا يَكُونُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ”.
عباد الله:
إنّ لنا في فصل الشتاء لنعمٌ لا توجد في غيره بما يسر الله فيه من الطاعات؛ فإنّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش؛ فإنّ نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام؛ لذا فقد روى الإمام أحمد وحسنه الألباني أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة”، وكان أبو هريرة – رضي الله عنه – يقول: “ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟” قالوا: بلى، فيقول: “الصوم في الشتاء” رواه البيهقي.
ومعنى كونها غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوًا صفوًا بغير كلفة.
وأما ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفسُ حظَّها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن وقد أخذت نفسُه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه.
وما يعتري المؤمن بإسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم فإنه مأجورٌ عليه، بل إنّ إسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال، وهو من أسباب مغفرة الذنوب ورفعة الدرجات، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ».
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المؤمنون:
إنّ قيام الليل عبادةٌ عظيمة، وعملٌ جليلٌ، دأب عليه الصالحون من هذه الأمة، وقد أوصى به النبي – صلى الله عليه وسلم -، ورغّب فيه، وبيّن ما يترتب على فعله.
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ» حسنه الألباني.
وأما الصوم – أيها المؤمنون – فلعظيم منزلته؛ فإنّ الله – عز وجل – قد أسند أجره إليه سبحانه، وبيّن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنّ الصيام سُتْرَةٌ وَمَانِعٌ مِنَ الرَّفَثِ وَالْآثَامِ، وَمَانِعٌ أَيْضًا مِنَ النَّارِ، فعن أبي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ” متفق عليه.
والصوم والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فقد روى الإمام أحمد وصححه الألباني عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: ربِّ إني منعته الطعامَ والشرابَ بالنهار؛ فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعتُه النوم بالليل؛ فشفعني فيه، فَيُشَفَّعان” وربما أراد بالقرآن التهجّدَ وقيامَ الليل؛ لاسيّما أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “ويقول القرآن: رب منعتُه النوم بالليل”.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الآجالَ منقوصة، والأعمالَ محفوظة، والموتَ يأتي بغتة، وربما كان هذا الشتاءُ آخر عهدكم به من الدنيا، فتزودوا فيه من الطاعات، واغتنموه بفعل الصالحات.
لما نزل الموت بعامر بن عبدالله جعل يبكي، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: «مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَقِيَامِ لَيَالِي الشِّتَاءِ».
اللهم وفقنا للصيام والقيام، وأعنّا على طاعتك يا رحيم يا رحمن.
وصلوا وسلموا – رحمكم الله – على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه وتعالى: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا) اللهم صل وسلم عليه يا رب العالمين، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداءك أعداء الدين.
اللهم إنّا نستغفرك إنك كنت غفارًا فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبها/ بدر بن خضير الشمري